رحيل مُبدع.. شجنٌ يدوم سَكن روح..!

بقلم أحمد الغرباوى
مع رحيل الفن الصادق يَموت قلب يخفق.. ويحتضر شجن يبدع.. وتذبل أوراق تنتظر الإخضرار مع أوّل قطرة ندى.. مع انسحاب السّحر مُرحباً بضىّ الشروق.. يتنسّم إبداع الربّ.. قبيل أن يَهبه لنفوس بشر.. يلقبون حامل عبئه بالفنان..!
والفنان الحقيقى يتقطّر من مىّ عينيه صفا روح.. تلاقى قبلة نورس جائع.. يتعلّم لغة الطيْر.. يحفّه موج شارد.. فرخ رقيق يتعلّم فى لهوه.. ويعبث فى رفرفة جناحيْه.. حِسّ راقٍ.. ربّما تعلن عنه دِمعة أبيّة.. متّشحة بكبريْاء ذات.. تئنّ شجناً دائماً.. !
فلاهى تنساب عن عمد.. فتهادت بين جفنيْه فأراحت الفنان المُبدع.. وتظلّ تترجرج دميْغات شجن.. روح معذبة.. تَرى فيها رغبة عاشق يتطلّع لخلود عِشقه من خلال تنوّعه.. وتنقيبه الدائم عن وسائل تعبيره.. ليرضى معشوقته..!
فنان يتطلّع فى أعماله.. يصمت كثيراَ.. ليتحدّث بأروع ابداعاته..تتفجّر مشاعره ولادة لابد منها.. وإلا دمّرته هو نفسه..!
وعلى أوتارها يترنّم خلقاً فنيّاً لكلّ الأزمان.. وتتكسّر نَشوته الفنيّة.. تتناثر إبداعاً عالميّاً.. رَغم إنّها تنضح من بئر مَحفور فى وطنه.. وبكدّ وعَرق مُنتهى الوطنيّة..!
ولما لا ويقول فنان نوبل الخالد نجيب محفوظ ( إن العالميّة هى الإغراق فى المحليّة..!)
أحيانا تعيش معه رومانسية مُعذبة.. وجع ونزف ودوام جرح.. مُلتحفة بخشونة وصوف اللاسّة والعمّة.. وعصا تحمى المال والسلطة..!
وتتألم وجعاً ويأساَ.. وتموت تضحية وبطولة.. وغيْرها من شخوص يبدعها.. أو يحلم فيها.. أو يجسّد ماهة محروم منه.. أو تحدّى قدر فيما يتمنى أن يغدو ويعجز الوصول إليه فى واقع مسيّر فى أغلب مساحاته.. ويتمنّع عن التكيّف فى أضيق أمكنته.. وضآلة أزمنته..!
إنه عالم الزيْف أو الحقيقة.. لا أدرى..؟
عالم افتراضى يجسّد الخيال.. وينثر الحلم.. وينقل الوقع.. يزيّفه تارة ويجمّله فى أخرى.. وينقله كماهو مرّات ومرّات.. بدعوى المصداقيّة والواقعيّة.. سواء كان فى نتاج حرف.. أو تجسيد روى.. أو نشوة روح.. وتقلّبات لذاذة خلق فنى..!
ويهديك أثواب القيْم والمثل والمبادئ.. وهى تنحسر أمام سوط المجتمع الاستهلاكى المَادى.. وتحوّلات الرؤى.. التى لاتملك صفات الفارس.. إلا فى المشاعر.. وتفتقد أسوار تحصّنها من غول المادة والجاه والسلطة وشهوة الانتقام.. وتطلّعات الطبقات الدّنيا نحو المّادة.. وتنسحب فى خجل وحياء لغة القلب..!
أمام الكاميرا.. أو بين أحرف تشدّ البصر.. وتتلاعب بالبصيرة.. من ثمار قلم يتحرّك بين أنامله رَقصاً.. أو كسر روح عجزاً.. أو حِديّة فارس.. يمتطى صهوة جواده منطلقاً.. أو.. أو..
يواصل حيْاة فنّه فى أتم صحّة وعافيْة.. !
كثيراً ما يتجاهل الإعياء.. يظنّ أنه لا يمكن أن يمسّه داء.. وأنّه خلق غير البشر أبداً.. أبدا..!
فالخلود وهمه وحَقيقته.. ولذّة الخلق الفنى تدفعه ليعتقد أنّه أبداً..
أبداً لايمكن أن يرحل..!
أبداً لايمكن أن يزوره الموت..؟
ويشدّه الإبداع يوماً بعد يوم.. بقرة مُغمضة العَيْنين تدور فى سَاقية نشوة الخلق الفنى..!
تحسّه وتحيْاه حقيقة .. رغم أنّه لاترى شيئاً.. إنه دوّار االإبداع..!
وإن شاء القدر مُعاقبة فنان خاصمه إبداعاً..؟
احرم ( فنان حقيقى ) من سيناريو ينز إبداعاً.. أيضا ( حقيقى ).. حتّة حتّة يموت ( جوّا نفسه ) ..!
امنع روحا لاتسكن إلا بين أنامل لاتعرف غير الحرث حرفاً.. تنكسر.. وتأبى لضم اللقمة.. وتنحرف بها عن موضع فم.. فلايسرى دم.. وتصبح فى انتظار موعد إعلان موت.. ونصب سرادق عزاء..!
عزاء مبدع.. وفقد جزء كبير من روح الحيْاة..!
لكنها لعبة الأقدار..!
ويصمت الفنان الحقيقى طويلاً.. يغمره طول الزمن تعتيقاً.. ويسحرك جمال مذاقه بفعل تخمّر الأيّام.. وروعة قِدم أريجه..!
وفى غمامة صِدقه .. فانتازيا يسيّرها العقل خيال ووهم مؤلف.. حلم مبدع.. حتى يجسّدها فنان حقيقى جبراً.. يهديها لنا.. تلقّى هبة ربّ.. رزق أرض..
فنان حقيقى مُكدّس حتى النخاع بروح الخلق الفنى.. مَوصول بِحسّ إبداعى.. اختصّه به الله وَحده.. دون سواه من الفنانين..!
وإذا بالخيْال يفجؤنا حَقيقة واقع.. وسراب الحدّوتة مىّ حَكىّ.. وعَذب وصف.. وقناعة مَنطق.. يحملها على أكتافه فنان.. ما أن يختفى عن الصورة حتى تشتاق لأدائه.. وتجوع روحك لحرفه.. وبما يأتى به شبعاً من رؤاياته..!
فيقنعك باللامعقول.. بمبرّرات أداء عبقرى.. وموهبة نادرة.. ويتحوّل إلى لحم ودم.. تتقطّر وتنساب من صِدق مَشاعر وأحاسيس.. دون نقص أو عجز.. أو عيب شائبة فى مَشهد أو لغة حوار أو.. أو..إلخ
يوهب الله منهم طغيْان حضور الفنى.. له القدرة عِلّة أداء يسحرك.. يجعل المشاهد يلغى النصّ الأدبى من تساؤلات جماليْات ذاك الحلم المرئى.. ويغطى على كل مافيه من عدم اكتمال.. ولما لا..؟
وهو عطاء آلهى لمن وهبه الله الموهبّة.. وسَعى فى مِضمار الفن يتمرّس ليْل نهار على ثقافات العالم .. ولايكتفى فقط بحارة الإبداع.. ليغدو جوكر فى جميع مَناحى الإبداع..!
وغيْره.. وغيْره..
وتنضح الأرض بعبقريّة الممثل.. الممثل المبدع.. الممثل المبدع الفنان.. الممثل المبدع الفنان العبقرى..!
عبقرية الفنان.. ( تشيل) عَملاً فنيّا.. ليضعه فى مَسيرة أجيْال يَمنحها القيمة والثراء والمتعة.. ويشعرها أن من بين جنبيها شئ عظيم يسمّى الإحساس..!
فيثمر لنا حيْاة فنيّة لاترحل أبدا.. تحمله على أجنحتها سَحابات.. تعلو به.. وتتسامى بندى الربّ رقيّاً وارتقاءاً..! يجد دائما شَجناً عاشقاً لرؤيْاه..!
وعندما يختفى هذا العبقرى.. تترنّح الموهبة.. ويتبعثر الفكر.. ونتوه بحثاً عن حيْواتنا الضائعة.. وأحلامنا المنسيّة.. وغذاء أرواحنا المُشّعة.. تظلل أجيْال شابة من الفنانين دون عمد أو قصد..!
ضىّ من نور ينتشى به العقل ..فى عَوالم تضجّ.. تحزن وتفرح.. تحب وتكره.. تثوروتغضب.. تتنطّط جوّانا وتزيّت حيْاتنا حركة وحيْاة..!
وعندما نقيم سرادق عزاء.. ونتوجّس خيفة.. ونرتجف من صباح غدّ.. نهرب فيه يومنا من غثّ حاضر.. يفتقر إلى أقل من ( الضئيل).. من ما يسمّى بإبداع فنى..!
إن رحيل إبداع حقيقى يعنى موت قلب..!
وافتقاده يعنى خواء روح..!
ومعه يرحل الكثير الكثير من رقىّ الإحساس.. وتسامى الإبداع الفنى..
*****