بقلم د. أحمد الباسوسى
شاب ضئيل، قصير، حائر، وغامض أيضا. استقبلته باعتباره مريضا يعاني من مشاكل متعلقة باضطرابات القلق الاجتماعي، وبعض المخاوف بحسب الوصفة التشخيصية لزميلي الطبيب الذي حوله الى العلاج النفسي. عشريني ضئيل الوجه، دقيق الملامح بدرجة مدهشة، كأنك في حضرة صبي صغير، أعزب، حاصل على الثانوية العامة ويخطط للدراسة الجامعية في مصر، يعمل حاليا بشركة لخدمات الطيران. يعيش مع والديه واخوانه، خجول، متردد، خفيض الصوت بدرجة ملحوظة.
الهمس
يقول ” فيني خوف وربكة قوية، لما أقعد مع صحابي أشرب شيشة يجيني خوف وتوتر يبان عليا، أقعد أفكر في الوظيفة وأصحابي والمستقبل، فيني ربكة وودي أتغير، ودي أكون مطمئن، كلامي كويس لكن البهتان اللي في جفوني من تأثير كثرة ممارستي للعادة السرية، أمارسها كثير أوي، أدمنت عليها، ودي أتركها، عملت علاقة جنسية مع شاب تايلاندي، طلعنا فوق سطوح عمارته ومارست الجنس معاه. مشغول أوي بشكلي، نفسي أعمل زراعة شارب ولحية، ودي شكلي يتغير، ودي أسوي عملية تجميل”. همس عن نفسه ومشاكله التي أوصلته الى الغرفة 8 وهذا المكان.
غموض الهوية الجنسية
والحالة على هذا النحو تبدو مركبة، متحدية، فيها أعراض اضطراب القلق الاجتماعي حيث توصل زميلي الطبيب الذي حوله للعلاج النفسي، وفيها ما هو أعمق ويبدو غائرا تحت السطح، الأمر الذي يعكسه هذا الهوس بممارسة العادة السرية لدرجة الادمان وفقدان السيطرة على هذا السلوك بحسب وصفه، الأمر الذي اضطره الى البحث عن حل في غرف الاطباء النفسيين. لم يقف الأمر عند هذا الحد بل اضطر الى ممارسة الجنس مع شاب تايلندي فوق السطوح في محاولة لإطفاء نيران مستعرة داخله لم تؤهله امكاناته البدنية ولا المادية من ارواء تلك الرغبة الجنسية المستعرة في طريقها المستقيم مع امرأة
إما بالزواج أو الصداقة. أيضا يبدو انشغاله الشديد بهويته الجنسية كرجل على حساب شكل جسده الذي يبدو متواضع في الحجم، وضآلة الاطراف مرهقا ومزعجا بالنسبة له. يقول ” نفسي أعمل زراعة شارب ولحية، ودي شكلي يتغير، ودي أعمل عملية تجميل”. كأنه هنا يبدو متمسك بهويته الجنسية كرجل ويسعى لتأكيدها، وكأنه يتملكه ضلال راسخ قوي وفقا لمعطيات جسده الضئيل بأنه صبي أو انثى، وفي سعيه لنفي هذا الضلال من رأسه تتملكه رغبة محمومة في ممارسة العادة السرية، بل وممارسة الجنس المتاح له مع رجل
مثله على سطوح العمارة من أجل التأكيد بأنه صاحب قضيب ورجل مكتمل الرجولة حتى لو كان جسده يشي للعالم بعكس ذلك.
شغف العلاقة بالمعالج
لم أفعل شيء خلال الخمسة جلسات الأول سوى الاستماع الى ثرثرته أو همسه المتكرر، ولم يفعل شيء هو الآخر سوى الثرثرة أو الهمس والانصراف من دون أن يهتم بتنفيذ تعليماتي بخصوص نقاط البرنامج العلاجي السلوكي المعرفي التي اتفقنا عليها منذ البداية، لكنه كان حريصا بقوة على الحضور في موعد الجلسة التالية بدقة مستغربة!. كأن كل طموحه اختزل في العثور على شخص ما في هذا العالم مقتنع بأنه رجل مكتمل الرجولة، ويستمع الى همسه أو بوحه وثرثرته، ويبدو أنه وجد ضالته في المكان ومعي.
استسلام
اليوم بدا متوترا، مطفئ الوجه، تحدث بصعوبة وبصوت خفيض للغاية قال ” حاسس بضيقة، ما أتحمل خاصة إخواني وأبويا، ممكن أضحك، ممكن أبكي، خيالي مسيطر عليا، أحيانا أكون مكتئب”. لم يستطيع أن يحدد سببا ظاهريا للضيقة، ولا لهذا التناقض الانفعالي الذي يعيشه بين البكاء والضحك. أيضا لم يكن لديه مانع من إعلان سيطرة خيالاته وضلالاته عليه وادراكه بقوة لهذا الأمر. مازال موقفه من استكمال الدراسة لم يتحدد بعد ، لكن الجديد أنه أصبح أقل التزاما بالمتابعة العلاجية عن ذي قبل. على الرغم من ولعة بهذا الأمر في السابق!. حصل المريض على الدعم الكاف وانصرف الى حال سبيله على أمل اللقاء في الجلسة التالية.
حيرة واختفاء (متابعة)
مظاهر البدانة واضحة على جسده ووجهه، يقول ” ها سجل في الجامعة، أنا مسافر مصر بكره عشان أسجل، لكن محتار، خايف أدخل تخصص حقوق ما أفلح فيها، وكمان موش عارف إذا كنت هاقدر أداوم وادرس والا لا؟. اضافة الى مشاكلي القديمة مع شكلي”. طلبت منه مبدئيا عدم اتخاذ أية قرارات تخص عملية التجميل في الوقت الحالي وقبل التشاور معا. وأن ينشغل بالعمل والتسجيل للدراسة في المرحلة الحالية. وأن نستعد جديا لتنفيذ كل ما تفقنا عليه في السابق من اجراءات تغيير نظام حياتنا السابقة الرتيبة استعدادا لتغيير واقعنا النفسي لو أمكن، أخبرته لو استطعت انفاذ ما اتفقنا عليه وأنا معك سوف تتغير نظرتك الى شكلك وربما تتغير النظرة والفكرة وتصبح أكثر تصالحا وتقبلا لملامحك ومظهرك العام. اتفقنا كذلك على برنامج سلوكي يتيح له التخفف من ممارسة العادة السرية. وافقني على الاجراءات ووعد بتنفيذها من اليوم. غادر في حالة أفضل من التي دخل عليها. تمنيت أن يلتزم بالمتابعة ويلتزم بتنفيذ التعليمات، ولا يسمح للضلالات التي تسكن رأسه أن تمزقه، وأن لا يترك نفسه يفترس الطعام افتراسا لكي يكون بدينا، ويغير من شكله وهيئته ويخرج من عباءة الصبية الصغار أو النسوة مثلما يعتقد. لكن الذي حدث أنه لم يحضر في موعده المضروب سلفا، ولم يهاتفني، انتقلت الى مكان آخر لاحقا ولم يتسنى لي سماع أخباره أبدا حتى غادرت المكان.















