أوكسجين الثقافة
أ.د.إلهــام سيــف الدولــة حمــدان – شموس نيوز بالتأكيد .. كلنا يذكر مشهد المحكمة في مسرحية…

أ.د.إلهــام سيــف الدولــة حمــدان – شموس نيوز
بالتأكيد .. كلنا يذكر مشهد المحكمة في مسرحية “شاهد ماشافش حاجة” بطولة الفنان عادل إمام؛ والحوار المُضحك المُبكي الدائر بينه وبين “برعي” حاجب المحكمة ـ وهو الممثل الفنان سامي جوهر، الذي لايعرف اسمه أحد ـ حين دار بينهما حوارٌ يُعد قمة في الدراما المجتمعية القاسية والمؤلمة؛ ويبدأ الديالوج بينهما بسؤاله عن راتبه الشهري وعدد أولاده وعائلته التي يقطن أفرادها الإحدى عشر داخل حجرة واحدة، لتأخذ الدهشة بتلابيب “الشاهد اللي ماشافش حاجة” عن كيف يتركون “الشقة كلَّها” ويتكوَّمون في حجرة واحدة ؟! لتأتي إجابة الحاجب التي تعكس عمق المأساة : هيَّ الشقة كُلَّها حجرة واحدة .. ياسيَّد !
لا أدري لماذا يقفز إلى ذهني هذا المشهد الدرامي؛ كلما قمت ـ بحكم اهتمامي الشخصي والأكاديمي بالحراك الثقافي على الساحة المصرية ـ بحضورالأمسيات الفنية والأدبية داخل “دارالأوبرا ” أو أحد قصور الثقافة المنتشرة على امتداد خريطة وادي النيل من حلايب وشلاتين حتى المدن الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط .
هذه القصور العملاقة التي خرجت إلى النور في حقبة الزمن الجميل في ستينيات القرن الماضي تحت اسم “الثقافة الجماهيرية”، لتتحول فيما بعد إلى هيئة عامة تحمل اسم “الهيئة العامة لقصورالثقافة”؛ وكان الهدف من إنشائها هو رفع المستوى الثقافي وتوجيه وتشكيل الوعي القومي للجماهير في مجالات السينما والمسرح والموسيقا والفنون الشعبية والتشكيلية؛ ونشر المكتبات التي تشجع النشء على الاطلاع وزيادة الثقافة المعرفية لديهم بقضايا الوطن؛ إيمانًا من الدولة بأن بناء الإنسان يأتي قبل بناء المصانع .
وعلى قدر إعجابي بوجود هذه “الواحات” الثقافية في جنبات المجتمع؛ ومساحاتها الشاسعة التي تضم قاعات المسرح والسينما وقاعات المكتبات المكيفة والمزودة بالعديد من أجهزة الكومبيوتر، والقاعات المخصصة لورش السيناريو، ومعارض الفنون التشكيلية، إلا أنني لاأخفي حزني على “الخواء” الذي تعاني منه تلك القصورفي ظل غياب الجماهيرصاحبة الحق الأصيل في الثقافة والمعرفة، ولعل السبب في هذا الغياب هو اقتصارالنشاط الشعري والأدبي على أمسية “يوم واحد” في الأسبوع .. وربما في الشهر!؛ والغريب هو الإصرار على إغلاق قاعات “الكومبيوتر” بالمكتبات لأنها “عُهدة” على أمين المكتبة ويجب الحفاظ عليها من سوء الاستعمال !
ولأن شر البليَّة .. مايُضحك ! فإنني لهذا أتذكرحوارالزعيم عادل إمام مع “برعي” حاجب المحكمة؛ والبلاهة التي يرتكبونها بترك “الشقة كُلَّها” والجلوس والأكل والنوم والمعيشة في ” أوضة واحدة” ! وهذا ماتفعله ـ للأسف ـ قصورالثقافة التي تقوم بتطبيق مبدأ هذا الـ “برعي”؛ وتترك المساحات الشاسعة التي تستطيع أن تملأها بكل الأنشطة الخلاَّفة على مدار أربع وعشرين ساعة؛ لتكون تلك الدور بحق منارة مضيئة وسط أمواج المجتمع العطشى لكل ألوان الثقافة والمعرفة .
وكم تخيلت خلال تجوالي في الساحات الغنَّاء حول دار الأوبرا المصرية؛ فأرى بعين الخيال كأنني أجوب “حي الرسامين” فوق هضبة “مونمارتر” المطلَّة على مدينة “باريس” عاصمة النور والسحر والفن والجمال؛ ويُعد هذا الحي من أهم وأجمل مزارات السائحين؛ نظرًا لوجود المقاهي والكافيتريات والمطاعم التي تقوم على خدمتهم بأقل الأسعار؛ تشجيعًا لاجتذابهم واكتسابًا للعوائد المنتظرة من جيوب السائحين .
وكم تمنيت بعين الواقع والحقيقة؛ أن أرى قاعات قصور الثقافة وساحات دار الأوبرا مفتوحة ليل نهار ليرتادها كل عشاق الفنون التشكيلية والرسامين والنحاتين؛ وعاشقي فنون الأدب والشعر والموسيقا؛ فهذا هو الدورالحقيقي المنوطة به وزارة الثقافة؛ وبخاصة في مجتمعاتنا التي تغلب عليها الأميَّة المغيبة للعقل والفكر والإبداع والابتكار، وليس المقصود بالأميَّة : القراءة والكتابة .. فهناك الكثير ممن لايقرأون سوى الكتب الصفراء وكتَّابها الذين لازالوا يعيشون بأفكارهم في ظلمات وغياهب العصور الوسطي؛ تلك الكتب التي تستقطب البعض إلى مسارات بعيدة كل البُعد عن روعة وجمال الفنون التي ترتفع بالذائقة الجمالية إلى أعلى مراتب الروح الإنسانية بفضائلها التي يجب أن يكون عليها الإنسان .
وقد تجنح بي الأمنيات بأن أرى ـ كنموذج ـ حلقة للشعراء حول تمثال “شوقي”؛ وحلقة للمطربين والمطربات حول تمثال “أم كلثوم”؛ وجمع من الموسيقيين حول تمثال موسيقارالأجيال “محمد عبد الوهاب” ، فهذا على الله ليس ببعيد ! فمصرالتي أنجبت صاحب تمثال “نهضة مصر” بإزميل حفيد الفراعنه المثَّال محمود مختار، والعشرات من الفنانين في كل الفروع وأثروا الساحة على مدى عقود من الزمن، ننتظر منها إعطاء الفرصة للمئات من هؤلاء العظماء؛ فالأوطان بلا أفنان تغرد فوقها البلابل والعصافير؛ ستكون ساحة لسلالة ” الغراب النُّوحي” الذي هرب من السفينة ولم يعُد !
وفي تقديري أن هذا الدور الحيوي المطلوب من وزارة الثقافة؛ لن يتم إلا في وجود المسئولين الذين يؤمنون برسالة الفن السامية، وضرورة التخلي عن جوقة “الموظفين” الذين لايعنيهم سوى الحفاظ على “العُهدة” والحصول على “المرتب”، وعلى الثقافة والمثقفين السلام ! وحتى لاتنطبق المقولة التهكمية لرجل الشارع الذي يستخدم كلمة ” قصور.. قصُورالثقافة ” بمعنى التقصير والتقاعس والتخلي عن دورها بالفعاليات الإيجابية داخل المجتمع .
الحاجة ملحَّة وضاغطة .. لملء فراغات الحجرات والعقول .. حتى لانفقد أوكسجين الثقافة والفنون الجميلة؛ ونختنق بثاني أكسيد الكربون في “أوضة واحدة ” بحسب ماجاء على لسان حاجب المحكمة الشهير بـ ” بُرعي ” !