….احلام موؤودة..

الأديب/ عبدالرحمن الراوى
ساعات تفصل بين عام منصرم وعام قادم ، تلك السحاب الثقال تبشر بامطار ستهطل بسخاء ، وهذا الصقيع الذى يسبقها ترتجف له الأبدان ، هكذا يوم يبدو صعب جدا عليه فهو غير مستعد للاحتفاء بالمطر كغيره من الأطفال ، دس جسده بين الزحام يتلمس الدفء داخل عربة المترو ، التي أغلقت عليه أبوابها سريعا مودعة الرصيف ، وبرغم سنوات عمره التي لم تتعدى أصابع اليد الواحدة إلا انه يحمل هموم الكبار وشجاعة لا تتوفر لبعضهم ، فتح حقيبته الصغيرة التى يحمل فيها بعض الحلوى التي يجاهد نفسه حتى لا تتوق اليها مجددا ، حرصا على توفير ثمنها . اخد يوزعها على الركاب مصحوبة باحلامه البسيطة في أن يفوز بثمنها ، و بصمته يرسل صرخات الرجاء للمساعدة حتى بقطعة نقد خرساء ،
دون ان ينطق ببنت شفه ، فجسده النحيل وشعره الملبد وملابسه الرثة واقدامه شبه الحافية و قسمات وجهه البائسة ، كل هذا يحكي قصة معاناته التي لا ذنب له فيها ٠ رمقته بنظرة حانية تفيض عطفا بحجم سنوات أمانيها تلك السيدة البدينة التي تتابط ذراع زوجها الذى بادر يجفف دموعا سالت من مآقيها ، ويهمس لها ، الله قادر ان يهبنا مثله ، ويربت على كتفها يضمد جرحها النازف ، وهذا المسن الذى ذى الحكمة الذى يتوسط المقعد قرأ معاناة الطفل وسوء حاله و صمم أن ينتزع من بين ثناياه ابتسامة يتهلل بها وجهه ، بعد أن داعبه بعكازه و حرك له شاربه الأبيض المخضب باصفرار جراء التدخين ، فكانت ابتسامته كشمعة كسرت بضوئها حصار ظلام دامس ، ثم اعطى الطفل الحلوى للشاب الذي يغازل الفتاة التي أمامه بعينيه ، فهم الشاب استيائها منه بعد أن قطبت جبينها ورفعت انفها لأعلى و حدجته بنظرة غاضبة ، إعادته لرشده ، فأعاد الشاب الحلوى للطفل غاضبا ، فاعطاها الطفل لنفس الفتاة و التي كانت تتناول حبات من البندق ، فتبسمت له و ربتت على كتفه ودست فى جيبه خمس جنيهات وكل ما لديها من حبات البندق ، انتقل الطفل إلى هذا الكهل وابنه الذي يرتدى ملابس جديدة و ثقيلة فلما راى الرجل حالته ، همس فى اذن ابنه ، فوافقه وخلع معطفه والبسه لطفل الحلوى ، الذى شعر بسعادة غامرة فشكر الرجل وابنه وعاد يجمع الحلوى او ثمنها ممن رغب في دفع شيء لمساعدته ، ويجمع معها أحلامه البسيطة ويسرع بهمة عالية ، ليعيد الكرة فى عربة أخرى مع اناس جدد ، ربما لا يحملون في جيوبهم الكثير ولكن قلوبهم عامرة بالحب والخير و بعقولهم أحلاما ربما تربو قليلا عن احلامه ، في قطار لا يعرف إلا وجهة واحدة يبعثر فيها الأجساد على أرصفة الحياة لتدور فى ساقية نضب ماؤها ، املا في غد أفضل ، وما إن نزل الطفل ليركب العربة التالية ، إلا و السماء تصب الغيث كأفواه القرب ، والأرض تكاد تجمد اقدامه ، و بينما يحمى ما فى جيبه من البلل بيده فوجئ ، بالشرطي الذى يؤدى عمله فى منع الباعة الجائلين ، ما ان تقدم نحوه حتى ارتبك واصابه الهلع فاسرع نحو الباب الذى اغلق ، فجرى بمحاذاة القطار والشرطى خلفه ، فانزلق وسقط وحلواه ، وأحلامه الموؤودة تحت عجلات القطار الذى لم يتوقف لأجله ، ولم تمسك السماء قطرها ، فقط كان الرصيف خاويا ، لم يحزن عليه احد .