كانت الساعة تدق الثالثة عصراً فى أحد أيام شهر مايو من عام 1976م ، عندما كنت أستعد لامتحان آخر السنة الدراسية بالصف الخامس الإبتدائى ، وهو نفس التوقيت من اليوم الذى كان الصمت فيه يعم بيتنا الكائن فى مدينة كفر الشيخ الهادئة ، بعد أن يخلد أبى وأمى لنوم القيلولة عقب تناول طعام الغذاء ، إستعداداً لشاى الساعة الخامسة الممزوج بصوت أم كلثوم فى حفلتها الإذاعية اليومية .. وبعد أن اطمأننت أننى برفقة السكون المطبق وانشغال أختى باستذكار دروسها فى الغرفة المجاورة ، بينما أخى الصغير ذو الثلاثة أعوام قد أصبح فى حضن أبيه وأمه ، إذا بى أزيح كتبى المدرسية لأختلس ساعتين من الزمن ، ضارباً بغضب أبى المحتمل عرض الحائط ، لمطالعة أحد ألغاز المغامرين الخمسة للأديب الكبير محمود سالم الذى كان يمثل ظاهرة لافتة فى جيلى ، حيث كنا نتبادل رواياته البوليسية الموجهة للأطفال بين التاسعة والخامسة عشر على أنها جواهر ثمينة ترصع عقولنا بقيم الخير والمحبة والجسارة والشهامة والصلابة فى مناصرة الحق ، دون صراخ كهنوتى كاذب ، وحمأة تنطعية جوفاء ، علاوة على تغذيته لوجداننا بأرق عبارات الإنتماء للوطن من خلال تغزله الرائع فى حى المعادى بالقاهرة الذى تسيد معظم أجزاء السلسلة تقريباً ، لذا كنت أراه آنذاك ومازلت كمثل القبطان المبدع الذى يبحر بنا فى عرض الحياة وطولها ، ليرشدنا إلى أينع بقاعها الإنسانية والجمالية .

وقد كنا نشتبك مع كل رواية لهذا المبدع الفذ ولانتركها إلى مع كلمة النهاية ، إذ كان يسيطر على انفعالاتنا بقدرته المدهشة على البناء الدرامى المنطقى داخل النص الشبيه بإحدى واحات الوطن ، لهذا احتلت شخوصه الروائية مكانة رفيعة فى وجداننا الطفولى وقتذاك ، حيث لم يبارح ذاكرتنا حتى الآن ” تختخ ” ذلك الولد السمين النبيل الذكى الذى يلعب دور القائد ببراعة ، و” محب ” هذا الرشيق الوسيم الذى كان مساعداً فطناً فى كل العمليات المخابراتية ، و” نوسة ” البنت الحنونة الطيبة التى كانت سنداً للجميع كنموذج مثالى للأنثى المصرية ، و” عاطف ” الصبى العاشق للمغامرة والجسارة بحب وشغف كبيرين ، و” لوزة ” الطفلة الشقية النابهة التى كان تلعب أدواراً تناسب عمرها ، علاوة على الشاويش على ” فرقع ” الذى كان يمثل شخصية الشرطى المصرى الساذج الغضوب الشريف ، و” سامى ” مفتش المباحث الذى رسمه محمود سالم كقدوة للضباط الذين يتفاعلون مع براعم المجتمع من أجل ربطهم بمشاكل الوطن ومتغيراته ، أما الكلب ” زنجر ” فكان مثالاً يحتذى على صحبة الحيوان للإنسان فى نصرة الخير والحق أكثر من البشر مع بعضهم أحياناً .. وقد لازم هذا البناء الأدبى البارع رسومات على نفس المستوى للفنان الكبير ” مأمون ” الذى شارك محمود سالم فى تحويل تلك النماذج الروائية إلى شخوص من لحم ودم ، لتعيش معنا وتنضج فى ضميرنا الجمعى حتى هذه اللحظات التى أكتب فيها هذه السطور ، حيث لا يفارق خيالى على سبيل المثال ألغاز ” الكوخ المحترق ” ، ” ورقة الكوتشينة ” ، ” الدائرة الخضراء ” ، ” الفارس المقنع ” ، ” الطفل المخطوف ” ، ” بيت الأشباح ” ، ” زهرة الخشخاش ” ، ” الزلازل الغامضة ” ، ” الشارع المسدود ” ، ” الثعبان الأعمى ” ، وهى الروايات الحاوية لذلك الغزل النصى المكين السهل الذى اكتشفت أنه أمد خلفيتى المعرفية واللغوية دون أن أدرى بثروة أدبية ظلت فى خزان قلمى حتى الآن ، والفضل فى هذا على أنا وجيلى وأجيال أخرى تبعته كان لمحمود سالم الذى ذاع صيته عبر هذه السلسلة المنطلقة من مؤسسة دار الهلال عام 1968م  بلغز ” الكوخ المحترق ” ، إقتباساً فى الأعداد الأولى فقط من سلسلة بريطانية مماثلة بنفس العنوان للكاتبة ( آينيد بلايتون ) ، وهو الإقتراح الذى قدمته له _ على حد قوله _ نادية نشأت ( المصرية اللبنانية ) رئيس تحرير مجلة ” سمير ” المنتمية من ناحية الأم لجورجى زيدان مؤسس الدار ، وهى صاحبة الفضل على محمود سالم عندما كان يعمل  كاتب صياغة ” بالمجلة ، حيث كلفته بإعادة كتابة موضوع لها عن ” ديزنى لاند ” ؛ فعدله بصورة شيقة أثارت إعجابها ، الأمر الذى حفزه على تقديم اقتراح لها بطرح لغز للأطفال فى مجلة ” سمير ” كل عدد ليقوموا بحله ، بمارفع من توزيع المجلة إلى أرقام مذهلة .. وبعد تأميم دار الهلال عام 1961م غادرت نادية نشأت مصر إلى لبنان لممارسة نشاطها الثقافى المعهود ، حتى عادت إلى مصر ثانية عام 1968م ، موظفة فى دار المعارف ، لتبدأ قصتها مع النجاح الباهر للقبطان المبدع محمود سالم فى نسج سلسلة ” المغامرون الخمسة ” ، وأيضاً سلسلة ” الشياطين ال 13 ” ذات الصبغة العربية ، وهو مايجعلنا أمام تدقيق حتمى لمشوار هذا الأديب الكبير منذ ميلاده فى العشرين من مارس عام 1929م وحتى الآن ، حيث يدخل اليوم المستشفى لإجراء عملية جراحية فى قلبه الذى أسعد الملايين من أطفال مصر والوطن العربى ، قبل أن يصبحوا رجالاً ونساءاً يدعون له بالشفاء ، وهو وماسنتابعه من بقية رحلته فى الحلقة القادمة إن شاء الله .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *