الكتابة من خارج الوطن

بقلم هناء عبيد – شيكاغو
ليس هناك وقع أصعب على النفس كذاك الذي يسببه الابتعاد عن الوطن، فالجذور التي نتركها خلفنا كفيلة بأن تصنع ندوبًا في الروح لا يمكن التئامها بسهولة، وتخلف جروحًا عميقة لا يمكن شفاؤها، ولعل المداواة بالكلمات هي أنجع سبل النجاة.
وقد قدر للعربي أن يهاجر أوطانه لظروف خارجة عن إرادته، بل هناك من هاجر لأنه لا يستطيع العودة إلى أرض الجذور كما هو الحال في الفلسطيني، لهذا قد تأخذ الكتابة للشخص الفلسطيني المهاجر منحى آخر، فالشعور باستحالة العودة إلى الوطن الأم يعمل على خلق وجع وألم وحزن لا يمكن احتمالهم. وهذا بدوره يصنع فضاءً واسعًا متميزًا للكتابة عما يختلج النفس من أوجاع.
ولا شك بأن هناك عناصر كثيرة مشتركة بين الأقلام التي عانت الغربة والبعد عن الوطن، لكن كما أسلفت ربما يكون وقع الألم أكبر حينما تكون الهجرة قسرية، مما يخلق عناصر إضافية يمكن أن تساهم في إبداع نصوص ذات أبعاد مختلفة كما هو الحال مع القلم الفلسطيني المهاجر.
وكلنا يعلم أن المكان من أهم الأعمدة التي يرتكز عليها النص بمتانة، حيث الأبعاد العاطفية، والمشاعر والأحاسيس الخاصة به، فكيف إذًا ستكون الكتابة عن المكان خارج حدود الوطن الذي انغرست فيه جذورنا وتعلقت به أرواحنا؟!
لا شك بأن البعد عن والوطن يصنع أرض خصبة يمكن زراعتها بنصوص مميزة، فأن تعيش خارج حدود وطنك يعني أن تعيش في بيئة مختلفة تُوَلّد في روحك الانفجار الذي يخلق النصوص المميزة، ويبقى الإنسان إنسانًا بمشاعره وأحاسيسه سواء كان داخل وطنه أو خارجه، لكن الروح حينما تفارق الجذور تكتب بمشاعر ملتهبة بالحنين، ومشبعة بالشوق.
ولا شك أن ثيمة المواضيع التي يمكن اعتمادها في خلق أي نص تتأثر باختلاف طبيعة الأشخاص وباختلاف ظروفهم التي عاشوها.
ومن أهم المواضيع التي أن يمكن الحديث عنها في داخل هذا الإطار
المشاعر خارج الوطن:
الابتعاد عن الجذور وأرض الآباء والأجداد ومسقط الرأس يؤجج في النفس الحنين، ويثير الشوق ويفجر الذكريات. فيكتب القلم طواعية عن مدى الألم المرافق للنفس بسبب بعدها عن منبتها ، وتبدأ الذكريات بالتدفق، حيث الطفولة الجميلة، والشقاوة على أرض الجذور، والأوقات السعيدة التي قضيناها مع الأهل وخاصة الأجداد، ثم الشوق إلى الأحبة، والتراث الذي افتقدناه في الغربة، وما أوجعه من شوق!
كل شبر في الأرض يؤجج الحنين والشوق، فما بالكم حين يكون الوطن مغتصبًا، ومحتلًا، بل ومن الصعب الوصول إليه، هذا بحد ذاته يُحَمّل النفس ألما مضاعفًا، وهذا ما حدثتنا عنه نسرين في روايتي “هناك في شيكاغو”، الفتاة التي عاشت على أرض ليست أرضها وهاجرت إلى بلد يقطن في النصف الآخر من الكرة الأرضية، حيث تحدثنا عن ذكرياتها مع أبيها وأمها وأختها، وحنينها إلى جدتها وجدها في القدس، وذكريات الطفولة التي انحفرت في روحها.
الكتابة عن الوطن من خارج الوطن
وهنا قد يتميز موضوع النص الفلسطيني عن غيره من النصوص، خاصة أن معظم من عاش خارج الوطن لم يختر الهجرة بإرادته، فكثير من الكتاب الفلسطينيين كتبوا عن عن فلسطين والمعاناة التي يعيشها أهلها رغم أن قدمهم لم تطأها يومًا، ولعل رواية “مدينة الله” للأديب الفلسطيني حسن حميد أفضل ما يمثل هذه النصوص، حيث كتب عن العديد من المدن في فلسطين، ووصفها بدقة، وذكر معاناة أهلها رغم أنه لم يزرها في يوم ما، فأي وجع هذا الذي يكتنفك حينما تكتب عن مدينة آبائك وأجدادك من مجرد حديثهم عنها؟
وقد أكون أكثر حظًا من غيري، فقد شاءت الأقدار أن أزور فلسطين، وأن يكون لها بصمتها على ذكرياتي الطفولية التي حاولت أن أعتصرها لأكتب عنها بدقة أكبر، لنقرأها من خلال ذكريات نسرين في روايتي “هناك في شيكاغو” التي تُحَدّثنا فيها عن طفولتها في بيت جدها، وذكريات أمها في القدس.
كما كان لي العديد من القصص القصيرة والقصيرة جدًا وبعض المقالات التي تحدثت من خلالها عن معاناة الشعب الفلسطيني داخل الوطن، منها قصة “أبو أحمد بائع الكعك” الذي تحدثت فيه عن مذبحة دير ياسين، وقصة “مقدسيةً، “وفي الشيخ جراح”و “طفل من غزة”و “حنين” وغيرها.
ولعل الجانب السلبي في الكتابة عن الوطن عن بعد، أن البعض قد يقع في بعض الأخطاء، فأن تكتب عن وطن لم تدسه قدمك، قد يعرضك إلى الإدلاء بمعلومات مغلوطة وهذا ما حدث في بعض الروايات التي ذُكِرت فيها بعض أسماء المدن خطأ، بل وتحدثت عن أماكن ومواقع بمعلومات غير دقيقة، وهذا أمر بديهي فالكتابة عن بعد ليست كما هو الحال عن قرب.
التعايش مع الآخر
أن تعيش في وطن آخر معناه أن تتعامل مع أناس يختلفون عنك فكريًا وثقافيًا واجتماعيًا، هذا يعني أن تكتب عن أحوال هذه الناس وكيف يمكن أن تتعامل معهم، خاصة أن العوامل السياسية لها دورها في التأثير على كيفية معاملة الناس للآخرين.
نحن نتعامل مع خلفيات متعددة من الثقافات وخاصة في شيكاغو التي يوجد فيها حوالي ١٨٠ جالية مختلفة، فنحن نتعايش مع هؤلاء الأشخاص في الجامعات والعمل والمناسبات الاجتماعية، فكيف يمكن أن ينظر البعض إلى الآخر؟
في روايتي “هناك في شيكاغو”، التي أعتبرها أنموذجًا للرواية التي كتبت من خارج الوطن، كان للبطلة نسرين صديقات من عدة أقطار مختلفة، من إيطاليا مثلا هناك صديقتها التي تتعامل معها بكل تفاهم حين وقعت أحداث سبتمبر، بحيث أنها لبست الحجاب تضامنًا مع المسلمين.
وكما تلاحظون يمكن أن توظف العلاقات على عكس ما تريده السياسة القبيحة.
تتحدث الرواية أيضا عن نظرة الآخرين لنا، فمثلًا حين أحداث سبتمبر تعددت المواقف، هناك من أيد المسلمين ووقف بجانبهم، وهناك من وقف ضدهم، لدرجة أنه تم قتل عائلة هندوسية بأكملها فقط لأن أحد الرجال فيها كان له لحية، فهم باعتقادهم أن كل ملتحٍ مسلم.
كما يمكن أيضًا التعرف على وجهات النظر المسبقة عن الآخرين ورأيهم فيها بسبب الإعلام المضلل، وقد توضح هذا الأمر أيضًا من خلال رواية “هناك في شيكاغو” حيث صديقات البطلة نسرين، ونظرتهم المسبقة غير الدقيقة عن المسلمين حيث تحدثت عن صديقتيها؛ فمثلا صديقتها الهندية لديها قناعة بأن الاحتلال لفلسطين أمر مشروع، أما صديقتها الكورية فترى بأن العرب هم أهل الإرهاب..
اختلاف الشعوب والثقافات
لعل أجمل ما يمكن أن يقدمه القلم خارج حدود الوطن؛ وجبات دسمة عن ثقافة الشعوب الأخرى، وخاصة أنها ستكون معلومات مستقاة عن قرب، إذ لا يمكن تقديم الحقيقة إلا بقلم من عاشها، لكم أن تتخيلوا مدينة كمدينة شيكاغو مثلًا والكم الهائل من المعلومات التي يمكن تقديمها عن الجاليات المختلفة التي تعيش فيها، حيث الجاليات الهندية والصينية والعربية والفرنسية وغيرها، وقد أشرت في روايتي “هناك في شيكاغو” إلى بعض هذه الثقافات وتحدثت عن الأسواق المتعددة الموجودة في شيكاغو.
أدب الرحلات
يخلق البعد عن الوطن مساحات شاسعة خصبة للإبداع في أدب الرحلات، حيث يستطيع القلم الكتابة عن أهم المدن ومميزاتها وطبيعة العمران وطبيعة البلاد، وأهم المعالم السياحية فيها، وهذا ما كان أيضًا في روايتي “هناك في شيكاغو” حيث قمت بالكتابة عن العديد من الأماكن السياحية في شيكاغو مثل “نافورة باكنغهام” كذلك تحدثت عن مدينة ديربورن العربية وعن الجاليات العربية فيها، كما أشرت إلى تاريخ مدينة شيكاغو والحريق الذي تعرضت له وتاريخ الهجرات لها بعد الحريق، كذلك تحدثت عن مكان إقامة ” فرانك لويد رايت” المهندس المعماري الشهير.
حرية القلم والسياسة
وقد ينطلق القلم برحابة أكبر في بلاد بعيدة عن أوطاننا، فيكتب حينها عن عيوب الأوطان بحرية أكبر، حيث أن بعض الأنظمة تقمع الأقلام المنتقدة لعيوبها، فيجد الكاتب نفسه خارج حدود الوطن أمام فضاء أوسع للتعبير عن قضاياه الشائكة التي أودت به إلى الهجرة، ويختلف الأمر من وطن إلى آخر حيث الظروف المختلفة.
الشؤون السياسية وتداعياتها
يمكن أيضا رصد المشاكل السياسة ومدى تأثيرها عالميًا في بلد الاغتراب، فمثلا مرت الولايات المتحدة بظروف سياسية كثيرة كان لها تداعياتها على وطننا العربي، منها أحداث سبتمبر التي ألقت الضوء عليها روايتي بالتفصيل، كذلك بعض الأمور السياسية التي رافقت جائحة كورونا في عهد ترامب وتأثيرها الكبير على العالم العربي أيضا، وقد تناولت ذلك في روايتي قيد النشر.