المتسوّل والكريم
واحد فى اثنين يساوى اثنين ، وواحد زائد واحد يساوى اثنين ، واثنين على واحد ـأيضاًـ يساوى اثنين، هذا بيان العقل فى العلوم الرياضية وقواعد الحساب ولا يمكن أن تتغير هذه النتائج فى الإطار المقروء لهذه العلوم وتلك القواعد التى أرست للبشرية دعائم الوعى وسبيل التطور والرشاد، وعندما نرصد قيم إيقاع المتناقضات فى إعمال حركة الحياه نجد ثنائيات الوجود والعدم، والليل والنهار، والذكر والأنثى، والسعادة والشقاء، والحب والكراهية ، والعدل والظلم ، والخير والشر ، والجمال والقبح، والعلم والجهل، والذكاء والغباء، والغنى والفقر، والصحة والمرض.. والعديد من الثنائيات التى تحقق كل واحدة منهما ملامح الأخرى وقيمتها.. حتى ينتهى هذا الديالوج بالنسبة لكل إنسان عند الايقاع الأخير بين الموت والحياه، ويظل هذ الإيقاع بين المتناقضات ماثلاً فى التجارب الإنسانية الذى يقترب من التحضر كلما كانت قيم التنوير سائدة فى حكمة الإدارة أثناء حركة الحياه، وتبتعد بالتالى كلما غابت تلك الحكمة ، ولقد إزدان التاريخ الإنسانى بنماذج تقلّدت مكانة القدوة الحسنة والمثل الأعلى ، ونتذكر اليوم بإجلال وإكبار أحد الهامات التى صاغت واحدة من أرقى وأفضل التجارب الإنسانية فى العصر الحديث
( العظيم ماو تسى تونج والتجربة الصينية).
ولد (ماو تسي تونج) فى 26 ديسمبر 1893.. وكان فى صباه وشبابه يتمنى أن يصبح أستاذاً أكاديمياً ، فدخل جامعة بكين في 1918 وانخرط فى النشاط السياسى أثناء دراسته وبعد تخرجه ، حتى أصبح واحداً من الإثنى عشر الذين أسّسوا الحزب الشيوعي في شنغهاي.. وبعد ذلك أصبح زعيماً مرموقاً له في 1937، وقاد بموهبة فائقة تبنى مفهوم الثورة الثقافية التى أرسى من خلالها البنية الأساسية للإنسان الصينى تأهيلاً لمسار بلاده إلى رحلة التحضّر والقوة والرخاء، وكانت ملحمته الواعية فى تحديه الأكبر لمشاكل التعليم والتصنيع والصحة والتكافل الإجتماعي، وحوّل النظام الإقتصادى من إحتكار الرأسمالية إلى العدالة الإشتراكية.
ويُذكر أنه فى ستينات القرن العشرين .. وفى أحد اللقاءات التى جمعت هذا العبقرى مع أحد القادة الذين يتشابهون مع قادتنا فى السنوات الأخيرة .. سأله أثناء استقباله فى مطار بكين ـ وقد كان عدد سكان الصين آنذاك قد بلغ مليار نسمة ـ ماذا تفعل كل صباح فى ( المليار فم ) لكى تضمن لهم الطعام ؟ .. فأجابه القائد المُعلّم : إن لدىّ ،
( إثنين مليار ذراع ) !! ثم صحبه بعد تلك الإجابة التى لم يفهمها هذا الضيف .. خاصة أنه قد حضر للصين للحصول على بعض القروض والمعونات ، وبالطبع لو كان هذا الضيف مُدركاً لمفاهيم قيادة وإدارة الأمم .. لما سأل السؤال ، بل .. ولما حضر ليتسوّل القروض والمعونات ( مثلما يفعل الضعفاء ) !! ، ومن العجيب أن المُتسوّل كان يرتدى فى هذا اللقاء أفخم أنواع الثياب من تصميم وإنتاج ( Pierre Cardin ) هو والحاشية المرافقة لفاخمة المُتسوّل.. بينما العظيم (ماو تسى تونج) هو ورفاقه يرتدون الثياب الشعبية البسيطة من إنتاج بلادهم، وقد بدا لمن لا يدرك حقيقة الموقف.. أن المُتسوّل هو الكريم صاحب الفضل.. وليس العكس.. يالا العجب والرثاء !! .
لقد كانت الملحمة الرائدة فى فنون الحكم والإدارة التى شهدتها الصين فى عصرها الحديث نتاجاً لأداء مستنير يعلم طرائق الحكم وإدارة الأنفس .. بعيداً عن الإرتجال والهمجية ( وفهلوة ) الفاشلين الذين يقودون أوطانهم فى صعود متتابع إلى الهاوية .. بسرعات متفاوتة تختلف ومدى تمكن الفشل ومقاديره .. من هؤلاء الفاشلين .
وها هى دولة الصين ( الآن ) تتفوق وتتألق عملاقاً فى صدارة المشهد الإنسانى فى العصر الحديث بفضل ذلك الحكيم ( ماو تسى تونج ) بعد أن أرسى لوطنه قواعداً للمجد والإعتزاز .. وما زالت بلاده تسير إلى المستقبل بلياقة المتحضرين .. رغم رحيله منذ ستة وثلاثون عاماً وخمسة أشهر وتسعة وعشرون يوماً .
فعلاً لقد صدق مولانا الإمام الفيلسوف ( ابو عبدالله محمد ابن إدريس الشافعى ) حين قال : قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم .. وعاش قومٌ وهم فى الناس أموات .