جمال عبد الناصر حسين

كان عمري ست سنوات في منتصف ستينيات القرن العشرين، أدرس في الصف الأول الابتدائي، عندما كنت أرى صورته يوميًّا وأنا في طريقي إلى الفصل بعد انتهاء طابور الصباح، طويل عريض، يرتدي بدلة زرقاء وابتسامته كبيرة تنير وجهه، يتكئ على كتف طفل أكبر مني قليلاً، ومكتوب تحتها “بابا جمال” (تبين لي بعدها أن هذا “الطفل الكبير” هو الدكتور مهندس خالد عبد الناصر الذي رأيته بعدها- واستمعت إليه- رجلاً ناضجًا، ومثقفًا ثوريًّا). لسبب لم أكن أعرفه كنت أصدق أنه بالفعل “بابا”، بالطبع غير أبي الذي تركته في الصباح يسحب بهائمه إلى “الغيط” قبل أن تشرق الشمس، ككل رجال قريتنا الفقراء الذين يعملون على قطع صغيرة من الأرض الزراعية، استأجروها من ملاك أغنياء لا يعملون بالزراعة، ولا يقيمون بالقرية من الأصل، لقاء مبلغ زهيد حددته قوانين “بابا جمال” العادلة، وقتها كانت أسرتنا المكونة من أحد عشر فردًا تأكل من خير هذه الأرض.

لأن فيضان النيل حول مدرسة قريتنا إلى كومة من الطين، فقد كنت أذهب إلى “مدرسة عباس” التي لم تكن سوى دار ريفية، في قرية مجاورة لقريتنا “كفر طحلة”، استأجرتها مديرية التربية والتعليم بالقليوبية من رجل اسمه عباس، وحولتها إلى مدرسة- سميت على اسمه- تضم أربعة فصول من الأول إلى الرابع، فقط، لأن الدار ليس بها سوى أربع قيعان، بينما الخامس والسادس أنشئا في غرفتين بالوحدة المحلية البعيدة. وأنا أقف في الطابور في مواجهة مدخل “الدار”، كانت تواجهني صورته التي تملؤني بالحماس، لهذا حين يستدعيني “الأستاذ” لأصعد فوق كرسي خشبي لأحيي العلم، كنت أزعق بأعلى صوتي: “تحيا جمهورية مصر العربية” ثلاث مرات، و”عاش الرئيس جمال عبد الناصر” ثلاث مرات أيضًا، وحين أقولها كنت أعنيها بالفعل.

لم أكن الوحيد الذي يرى الرجل هكذا، كل الأولاد كانوا يرونه كذلك، عندما كنا نلعب في الشارع مساءً- بعد أن ننهي عملنا في صناعة السجاد اليدوي- يكون اسمه حاضرًا على ألسنتنا وفي مخيلاتنا الطفلة كصانع للمعجزات، فهو يستطيع أن يعبر النهر بقفزة، وإن مد يده يطول السماء، ويستطيع أن يواجه ويهزم جيشًا كاملاً، ويصعد الأشجار العالية الملساء دون مساعدة، والنخيل العالي كذلك، ويرفع الأحجار الثقيلة دون عناء، ويصوب على الأهداف بعناية فائقة. كنا نتحدى بعضنا بعضًا: “لو كنت ابن جمال عبد الناصر افعل كذا”، وكذا هذه تكون عادة من المستحيلات التي لا يستطيعها إلا جمال عبد الناصر وأبناءه، وكنا نصدق والله رغم أن أحدًا لم يقل لنا إنه يستطيع، أو إنه فعل ويفعل، ربما لأننا كنا نوقن بعقولنا الصغيرة أنه من فتح أمامنا باب الصعود والخروج مما نحن فيه من فقر وجهل ومرض، وقتها كنا نجتهد في دراستنا ونعلم أن الطريق مفتوح للمجتهدين إلى ما لا نهاية.

في يونيو 1967 كنت أنهيت صفي الدراسي الأول عندما اشتعلت الحرب بين مصر وإسرائيل، كنت أمسك بيدي يد ابنة الجيران ونهتف، وحدنا، ونحن نتعلق بشباك دارهم المغلق: “هنحارب هنحارب/ إسرائيل الأرانب”، بالطبع لم نكن ندرك، ولا نريد أن ندرك، أن مصيبة عسكرية حدثت، اسموها نكسة، فقدنا على اثرها سيناء كاملة، وسيناء ثلث مساحة مصر، لكن يقينًا كان يملؤنا أننا سنهزم إسرائيل ونسترد سيناء، لأننا نثق أن جمال عبد الناصر لا يمكن أن يهزم أبدًا، (هذا اليقين- ربما- هو الذي أدخل الشعب المصري في اكتئاب عام ناتج عن اتساع الفجوة بين التوقعات والواقع على الأرض، إلا فئة قليلة كانت تعرف وتتوقع). وفي 28 سبتمبر 1970 كنت عدت من المدرسة، ثالت أيامي في الصف الخامس الابتدائي، نمت قليلاً واستيقظت على خبر رحيله، بالطبع لم اصدق أنه يمكن أن يموت كالبشر، كنت مأخوذًا، أنتظر شيئًا ما يحدث ليغير الصورة ويقول ما لم يقل. حصلنا على إجازة دراسية الثلاثة أيام التالية، ويوم الخميس كنت مع عائلتي كلها نلتف حول الراديو، نستمع إلى المذيع الذي ينقل وقائع جنازته، وإلى الكلمات الحماسية القصيرة التي كان يلقيها الرؤساء العرب، يومها لأول مرة سمعت تعبير “في السراء والضراء” من جعفر نميري ففتحت أمامي باب المتقابلات اللغوية.

كنت صغيرًا تائهًا بين أرجل شباب ورجال القرية، الذين كانوا يجوبون الشوارع حاملين نعشًا فارغًا في جنازة رمزية، كانوا يبكون بجد، ينهنهون بصوت مرتفع والدموع تنهمر على خدودهم، ويهتفون: “يا خالد روح قول لأبوك/ 100 مليون بيودعوك” (خالد مرة أخرى!) و”بالروح بالدم هنكمل المشوار”، وعلى الأبواب كانت النسوة الفلاحات واقفات، يحملن أطفالهن الرضع على صدورهن الخارجة من أطواقهن، يصرخن ويولولن ويلطمن خدودهن، الجنازة كانت صاخبة، ليست كالجنازات الهادئة التي سرت فيها عندما كبرت لنشيع قريبًا أو جارًا إلى مثواه الأخير.
إنه جمال عبد الناصر حسين المولود في ١٥ يناير ١٩١٨ في ١٨ شارع قنوات في حي باكوس الشعبي بالإسكندرية، وهو “الابن الأكبر لعبد الناصر حسين الذي ولد في عام ١٨٨٨ في قرية بني مر في صعيد مصر في أسره من الفلاحين، ولكنه حصل على قدر من التعليم سمح له بأن يلتحق بوظيفة في مصلحة البريد بالإسكندرية، وكان مرتبه يكفى بصعوبة لسداد ضرورات الحياة”. هو الضابط الشاب الغامض الذي يتحلق حوله زملاؤه وينتظرون ما يقول، على قلة ما يتكلم، أنشأ تنظيمًا سريًّا في الجيش أسماه “الضباط الأحرار” استطاع أن يستولي على الحكم في 23 يوليو 1952، وبعدها استطاع أن يتخلص من خصومه، فرادى وجماعات، حتى استقر له حكم مصر، ودانت له الشعوب العربية في معظمها بالولاء، فأصبح الزعيم العربي الوحيد الأوحد الذي تنعقد حوله الآمال.
لا شك عندي- الآن- أن عبد الناصر كان ديكتاتورًا، يسجن المعارضين ويكمم الأفواه، لكنه ديكتاتور محبوب، وتلك هي معضلة هذا الرجل، وهي سبب ارتباكات كثيرة في تحليل شخصية، فمعارضوه كانوا قلة: فلول الأحزاب القديمة، أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الذين كانوا يريدون نصيبًا أكبر في السلطة لم يسمح لهم بها، وبعض تيارات اليسار الراديكالي التي سرعان ما حلَّت نفسها ودخلت في التنظيم الطليعي للاتحاد الاشتراكي. لكن القطاعات الأوسع من الشعب كانت تؤيده لأنها استفادت من حكمه بشكل كبير: الفلاحون الذين تملكوا الأرض من قانون الإصلاح الزراعي، أو الذين استأجروها من ملاكها بأسعار زهيدة، والعمال الذين صدرت قوانين ملزمة تحدد أجورهم وساعات عملهم وسبل التأمين على حياتهم، والمتعلمون الذين تأتيهم خطابات وظائفهم وهم ما يزالون يؤدون الخدمة العسكرية ويترقون حتى الوظائف العليا: وكلاء وزارة ووزراء، وهؤلاء كان تأثيرهم كبيرًا على غيرهم، إضافة إلى عامة الناس الذين بنت الثورة لهم مدارس في قراهم ووحدات صحية ومراكز شباب وقصور وبيوت ثقافة، كما بنت مصانع للحديد والصلب والأسمنت والفوسفات والغزل والنسيج استوعبت الراغبين في العمل، وأعطتهم أجورًا معقولة بأسعار هذا الزمن.
كان ديكتاتورًا استطاع أن يكسب حب الجماهير، ويتحول من ضابط صغير في جيش غير معد للقتال إلى أيقونة، إلى رمز للحرية والكرامة. لا أناقش هنا إن كان ذلك صحيحًا أو خطأً، فهذا لا يعنيني الآن، فلكلٍّ قناعاته ورأيه الذي أحترمه وأتفهمه، لكني أتحدث عن واقع رأيت بعضه بعيني طفل سحرته الهالة، وبعقل رجل شاهد وقارن وحلل وقرأ وكتب وسافر والتقى كثيرين من أقوام وأجناس مختلفة. بعد ثلاث سنوات من رحيله- وبعد أن استوى السادات على عرش مصر بفعل نصر أكتوبر- بدأت الأقلام تكتب عن جمال عبد الناصر بشكل مغاير: جلال الدين الحمامصي شكك في ذمته المالية، مصطفى أمين كتب عن ظروف سجنه، توفيق الحكيم كتب “عودة الوعي”، وأنيس منصور لم يترك مذمة إلا وألصقها به، كنت في المرحلة الإعدادية حينما قرأت ذلك في الصحف ولم أصدقه، وكثيرون لم يصدقوا أيضًا، وكثيرون صدقوا لأن “الزن على الودان أمر من السحر”. وكنت في المرحلة الثانوية حين قرأت كتابًا لرجل اسمه “إبراهيم عبده”، لم أره ولم أسمعه ولم أقرأ له كتابًا غيره، الكتاب سلسلة من الهجوم على عبد الناصر وقراراته وزمنه، مقابل سيل من المدح لأنور السادات، والغريب أنه جعلني أحب عبد الناصر أكثر، وأتعلق به وبزمنه أكثر وأكثر.
الناس يخلدون البعض في ذاكرتهم، لأسباب تبدو غير مفهومة أحيانًا، وتكون مبررة ومفهومة في أحيان أخرى، لذلك ذهبت كل الكتابات الناقمة على عبد الناصر المنتقمة منه إلى النسيان، وبقيت ذكراه خالدة في ضمير الشعب المصري خاصة، والعربي بشكل عام، ففي التجمعات والتظاهرات التي تخرج في كل الشوارع العربية ضد الحكام ترفع الجموع صورته، وتردد شعاراته ومقولاته، وتستشهد بمواقفه وقراراته، على الرغم من أنه قائد مهزوم، تعرض الجيش في فترة حكمه إلى هزيمة قاسية من إسرائيل، وعلى الرغم من أن من جاء بعده منتصر، إلا أن للذاكرة الشعبية حساباتها الخاصة التي تقيم الأفراد بشكل أعمق مما يظهر على السطح.

من ذلك أيضًا أن الشعراء الحقيقيين كتبوا عنه، قصائد حقيقية، لحنها الملحنون الحقيقيون ليتغنى به وبإنجازاته مطربون حقيقيون أيضًا، وصدق الناس الكلام ورددوه، والمفاجأة أنهم ما يزالون يصدقون ويرددون حتى اليوم بعد أكثر من 42 سنة على اختفائه من المشهد السياسي، بجسده وبسياساته التي محاها أنور السادات بـ”أستيكة” كما يردد البسطاء وتروي النكات المتداولة. الشباب في الميدان أثناء ثورة 25 يناير- وفي ميادين أخرى في دول عربية أخرى- يرفعون صوره، رغم أنهم ضد حكم العسكر، ويرددون الأغنيات التي كتبت عنه، رغم أنهم لا يريدون حاكمًا نصف إله نغني له، وتلك واحدة من المفارقات المهمة التي تحتاج إلى جهد من علماء النفس لتفسيرها، على الرغم من أن رجل الشارع البسيط في مصر يفسرها ببساطة: فهذا الرجل أحب البسطاء فأحبوه، ومن يحبه البسطاء يتقلد مكانه في قلوبهم أبد الدهر.

لم يترك جمال عبد الناصر حسين مذكراته ليحكي لنا خلفيات هذا الحدث أو ذاك، مثلما ترك العشرات من زملائه حكايات بالتأكيد ليست صادقة كلها، على الأقل لوجود تناقضات بين بعضها البعض، ترك لنا- فقط- مواقفه وخطبه وقراراته وغموضه وسحره الذي يتمكن من القلوب، كما ترك لنا أسرة مصرية بسيطة كالناس الذين نقابلهم في الشارع كل يوم ونتكلم ونتعامل معهم: أب يعمل بوسطجيًّا (بالتأكيد لم يستمر هكذا)، وزوجة عادية، ربة منزل من نساء مصر، وأولاد مجتهدون في دراستهم، أصبحوا أساتذة جامعات وضباطًا دون أن يساعدهم أحد، لا يعملون في السياسة إلا ببعض الاستثناءات. المقارنة بين هذه الأسرة البسيطة وأسر الرؤساء الذين جاءوا بعد عبد الناصر ماثلة دائمًا في ضمير المصريين، ودائمًا ما ينتصرون لها ولبساطتها وعاديتها، سواء أكان ذلك حقيقيًّا أم لا.

كثيرون في مصر يحكون حكاية الخطاب.
كثيرون تعرضوا للظلم في عهده: خريج جامعة تم تخطيه في التعيين، عامل تم فصله تعسفيًّا، موظف لم يترقَّ في دوره.. الخ.. الخ، كلهم أرسلوا خطابات لجمال عبد الناصر، رأسًا، يشكون له مظالمهم، وكلهم يحكون أنهم فوجئوا بردود منه شخصيًّا، خطابات تأتيهم على عناوينهم في قراهم البسيطة، موقعة باسم جمال عبد الناصر (رئيس الجمهورية)، ترفع عنهم المظالم وترد لهم الحقوق، وتثأر لهم من ظالميهم، هكذا ببساطة، وكأنه يعيش معهم في قراهم، يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون، يستمع ويستجيب بحب وحنو.

يوم السبت 3 أكتوبر 1970 عدنا إلى الدراسة بعد إجازة لمدة ثلاثة أيام شيعنا خلالها عبد الناصر إلى مثواه الأخير، في طابور الصباح كانت فقرة تحية العلم تقترب، التلاميذ يصطفون متجاورين على شكل مربع ناقص ضلعًا، على ملامحهم الفقيرة حزن مقيم، غامق وعميق. أشار لي المدرس الذي يدير الطابور برعشة من رمشيْ عينيه، همس في أذني، وعيناه مغرورقتان بالدموع: “قل تحيا جمهورية مصر العربية ثلاث مرات فقط، ولا تقل عاش الرئيس جمال عبد الناصر”، ففعلت، لم أتمالك نفسي وأنا أهتف، احتبس صوتي قليلاً، حاولت التغلب عليه ففشلت، وبكيت بكاءً حارًّا وبكى التلاميذ خلفي ومعي، وبكى المدرسون والعمال والناظر، وانصرفنا إلى فصولنا ونحن نبكي، وسوف لا تصدقني إن قلت لك إنني أبكي الآن وأنا أكتب هذه السطور رجلاً مات منذ 42 عامًا، كان ديكتاتورًا يكمم الأفواه ويسجن المعارضين، أنا الذي أؤمن بالحرية والديمقراطية والتعدد وضرورة أن يعبر كل الناس عن آرائهم مهما اختلفت معها، لأن الله لم يخلق الناس متشابهين، ولأن مصر ليست وطن فصيل واحد، وأرجوك لا تسلني كيف أبكي ديكتاتورًا مات وأقاوم ديكتاتورًا حيًّا بكل ما أوتيت، لأنني سأجيبك إجابة عاطفية على الأغلب، هي أنني أحببت الديكتاتور الذي أحبني!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *