رواية “الأسير 1578” للكاتب الأسير الفلسطيني، هيثم جابر الحياة ما بين الذّاكرة والواقع

قراءة وتحليل: الكاتبة نزهة أبو غوش
في روايته ” 1578الأسير” أخذنا الكاتب الأسير الفلسطيني، هيثم جابر إِلى حياتين متباعدتين ومتناقضتين تماما: الحياة الأولى، هي حياة الذّكريات الجميلة وسط الأهل والأحباب. في حضن أمّ رؤوم تفعل المستحيل من أجل راحته. وذكريات الفتاة الّتي أحبّها وخطبها، وخطّطا أن يبنيا حياة سعيدة مشتركة. كتب لها القصائد والأشعار دون نهاية.
أمّا الحياة الثانية، فهي الحياة في السّجن خلف قضبان حديديّة قاسية، فهو يتلظّى تحت نار الاحتلال، داخل زنازين قذرة ضيّقة؛ يعاني ألم البرد وعذاب التّحقيق المرهق، لا يعرف ليله من نهاره.
كانت الذّاكرة هي العلاج النّفسي الّذي يزيح عنه الألم؛ ابتسامة المحبوبة وشعاع عينيها، وسحر كلماتها، كانت دافعا قويّا توصله بالحياة.
رغم مواجهة الأسير لكّافة أنواع العنف والظّلم إِثر الحكم من قبل محاكم عسكريّة لفّقت له ذنوبا لم يسمع بها؛ رغم كلّ ذلك كان صامدا متحدّيا عنيدا لا يريد أن يظهر لهم ألمه. قال في ض31″ إِنّ قدميه سوف تنقطع من شدّة الألم، لكنّه صامت لا يتألّم ولا حتّى يتأوّه”
لم نشعر من خلال قراءتنا للرواية حتّى نهايتها؛ أنّ الأسير كان نادما؛ بل كان مقتنعا بثورته ضدّ المحتلّ، حتّى وإِن عاد إِلى الحياة من جديد، فسوف يظلّ على موقفه نفسه. قال في ص27″ أنا هنا الأسير في قوقعة الزّمن الرّمادي البذيء…أنا هنا أفضّل أن أمارس قناعاتي؛ هلى أن أمارس قناعات الآخرين في الفضاء الرّحب”
يمكننا القول بأنّ الأسير لم يعاني من الصّراعات على حياته ما بين الدّاخل والخارج؛ لأنه مقتنع تماما بقضيّته، وغير مستعدّ لأيّة مساومة.
إِنّ الصّراع الحقيقيّ الّذي واجهه كأسير، هو صراعه مع الزّمن، ينتظر فرصة من هذا الزّمن تتيح له الانتصار على عدوّه. أمّا الصّراع الحقيقي الّذي كاد أن يهلكه، فهو ذلك الصّراع مع الحبّ الّذي يسكن سويداء قلبه، وعشقه الملازم له؟ هل يبعد عنه تلك المحبوبة الّتي عشقها؟ بعد الحكم عليه بالمؤبّد وأكثر، هل يمنحها حريّتها؟ وإِن فعل فسوف يقضي على كلّ نسمة أمل يتعلّق بها في الحياة. وهل يبقيها ملتصقة على جدران قلبه؛ حتّى وإِن عاشت محكومة مؤبّدة مثله؟ كم هو مرير هذا الصّراع! خاصّة وأنّ المحبوبة تصرّ أن تكون ثائرة مثله، فليس وحده من يضحّي؛ من أجل حريّة هذا الوطن. “لكنها ليست تجابه طرفا واحد في هذه المعركة، ولا تحارب على جبهة واحده، هي تجابه عشرات الأطراف، وتحارب على عدة جبهات…إذن إنها معركتها الفاصلة فيها يكون أكثر من طرف من الأهل من أخوال، وأعمام، وربما صديقات وجيران اضافه إلى مجتمع بأسره. ” ص 203
ماذا أراد الكاتب هيثم الأسير أن يقول في روايته؟:
“أنا هنا لا أشرب إلا ماء قذرة وغيري يشرب المياه المعدنية، أنا هنا آكل طعاما لأبقى حيا؛ وغيري يأكل ما لذّ وطاب، أنا هنا في عتمة القهر وظلمة الحرمان وغيري يقضي إجازة الصيف في مانهاتن، والشتاء في قرطبة. ”
هل أراد الأسير أن يلوم أو يعاتب؟ أم أن يقول: قدّروا ما يفعله المناضلون الّذين ضحّوا بكل غالٍ ونفيس؛ من أجل عزّة هذا الوطن. أراد أن يوصل لقرّائه بأنّه لا يريد ثمنا لتضحياته، إِلا أن يقدّروا قيمة هذا الأسير الّذي يقبع خلف القضبان الصّدئة. استطاع الكاتب هيثم جابر أن ينقل لنا حياة مميّزة من النّاحية الاجتماعيّة. رغم كل المعيقات ورغم كلّ الألم، ورغم محاولة قتل الأمل؛ وقف الأسير مع أخيه الأسير، يواسيه، ويسايره، ويساعده. الأسرى على اختلاف طوائفهم وانتماءاتهم يبكون معا، ويضحكون معا، يأكلون معا ويصنعون مأكولات فلسطينيّة من بواقي ما يوفّرونه ممّا يجودون به عليهم من الأطعمة الرّديئة. يصنعون الأعياد في اللا مكان واللا زمان. يرسمون الفرحة والابتسامة، على جدران قلوبهم، رغم كلّ المعاناة.
تعمّدت لغة الكاتب أن تكون بلاغيّة فضفاضة؛ وكأنّ الكاتب الأسير هيثم أراد أن يفرّغ كلّ ما في داخله من كلمات، حتّى أنّ كل مفردات اللغة لا تكفيه، ولا تشفي غليله؛ كي يعبّر عن وضعه المأساوي كأسير، وعن وضع هذه الأمّة المنتهكة في هذا الوطن. كما أنّ كلمات العالم كلّه لا تكفي ليعبّر فيها عن حبه وعشقه وبعده عن محبوبته وحرمانه؛ فجاءت العبارات طويلة، والوصف ممتدّ له عدّة أذرع فيه المبالغة والإِطالة والتّكرار؛ أمّ الرّسائل من كلا الطّرفين فكانت مفعمة بالرومانسيّة المحبّبة، والغزل العذري الجميل.
” هي امرأة الكلمات الغابرة بين أجنحة البنفسج والزعفران …هي امرأة الليل المسافرة في مرافئ الشتاء البعيدة …هي قداسة الأقحوان في عبق المساجد والكنائس هي أنشودة المساء في طلتها الساحرة..هي رائحة البخور الشرقي في متعة جسد القصيدة..، هي طعم اللذة والشهوة في دوحة القداسة والسمو الروحاني…هي المسافات التي تسافر في جدائلها مدائن العطور… هي صاحبة السمو الأبدي في مروج الزنبق والإعصار… هي صاحبة القرار السيادي حين ينام تحت قدميها البركان هي جرحه الساكن في شرايين العذاب الرمادي …هي التي كان يسبح في عينيها الملاك ” ص34.
أمّا العاطفة، فكانت رهيفة حسّاسة صادقة المشاعر؛ ومن أصدق منه وهو يعيش التّجربة الحقيقيّة على جمر من النّار الّتي لا تنطفئ!
أمّا الخيال، فلا أعتقد أنّه أقوى من الواقع الّذي يعيشه الأسير؛ فنجد أنّ الرواية قد امتلأت بأحداث يعجز عنها الخيال.
استخدم الكاتب تقنيّة أسلوب الرّسائل ما بينه وبين المحبوبة؛ فكانت طويلة ممتدّة؛ كأنّه لم يقتنع بعد بنهاية ما، فطاله الصّراع، حتّى في الرّسائل.
“فهل حبنا سيتحمل عوامل التعرية؟!!وسنوات الصقيع القادمة؟؟ هل سيتحمل ذوبان جليد الصخور؟! وهل ستنجو ضفائرك السمراء من غزوات القراصنة، في غياب أمراء المحنه. مولاتي….صاحبة الجلالة والسمو…..
فكري جيدا في كلماتي ، ولك أن تقرري”ص219
أرى بأنّ الكاتب قد أكثر من الرّسائل؛ وكأنّه وجد الفرصة الملائمة للتعويض عن حالته النّفسيّة المكبوتة، والمعاملة الغير إِنسانيّة، ويكفيه أنّه رقم ” 1578″ وأنّه رهن للمجهول.
من خلال الرّواية تعرّفنا على عالم السّجن الرّهيب؛ والمصطلحات الغريبة الّتي دخلت عالمنا نحو: الزندة، والقمعة، والأمتناة، والشاويش، والبرش، والكنتينة، والفورة، والبوسطة…وغيره