رواية مريم مريام، للكاتب كميل أبو حنيش

قراءة وتحليل: الكاتبة نزهة أبو غوش

رواية مريم مريام للروائي الأسير، كميل حميش، عن 362 صفحة من القطع المتوسّط. مكان الأحداث قرية صفوريّة قضاء الناصرة في الداخل الفلسطيني.
عند قراءتنا لرواية الكاتب كميل حنيش، نجد أنّنا نعيش مع شخصيّات الرّواية في صراع متوصل من البداية حتّى النهاية. لقد صاغ الكاتب روايته بصيغة الأنا على لسان الرّاوي، إبراهيم.
كيف لإنسان أن يعيش في فضاءين متعاديين طوال مراحل حياته؟ الشخصيّة المركزيّة، إبراهيم أو (أبرام) ولد لأب عربيّ، وأمّ يهوديّة؛ الجدّة الأولى مريم والثانية مريام؛ وله أخت، عنات من طرف والدته (شلوميت).
الأولى هجّرت من قريتها صفّوريا، من قبل الاحتلال، بعد أن فقدت أهلها تحت الرّكام؛ والثانية قادمة من ألمانيا بعد أن فقدت أهلها في محرقة النّازيّة (الهولوكست). والمفارقة، أنّ مريام
نجد هنا أنّ الكاتب قد عرض مأساتين حقيقيّتين؛ من أجل أن يشتدّ الصّراع في الرّواية، ويتوسّع، وبالتّالي يشدّ ذهن القارئ، ويدع هناك مجالا للتّساؤل والتّفكير والحيرة.
قضى إبراهيم طفولته متألّما بين زملائه من كلا المعسكرين، فهو يهوديّ حقير لأمّ شر… في المعسكر الأوّل، و(عرفي) حقير لأب عربي. وما أصعب أن يعيش مع أخت يهوديّة!
لقد عكس الكاتب صورة مرّة قاتمة لحياة إنسان يعيش في هذه البيئة، بين حضارتين، وثقافتين مختلفتي؛ سياسيّا واجتماعيّا ودينيّا.
أرى أنّ الكاتب قد أرهق تلك الشخصيّة حتّى النّخاع. كيف لإبراهيم أن يختار: الجدّة مريم صاحبة الأرض المسلوبة، اوالمرأة الحنونة ذات الحضن الدّافئ، أم تلك المرأة الرّاقية التي تعزف الألحان الجميلة، وترسم اللوحات الرّائعة، المحتلّة لبيت أجداده، وتعيش فوق رفاتهم؟
هل أراد الكاتب أن يضعنا في زاوية الاختيار الصّعب، ومن خلال تلك الشّخصيّة علينا أن نتعايش بين المعسكرين المتناقضين، ونتقبّل الواقع كما هو؛ لكي نعيش حياتنا بسلام وطمأنينة؟ وهل نجح في تحقيق ذلك؟ وهل الحلّ السّلمي ممكن، أم مستحيل؟
عرض الرّاوي كلّ الحروبات والأزمات الّتي حدثت في المنطقة: القتل والتّدمير والتفجير، والانتقامات، والسجون؛ حتّى عملية السّلام ( أوسلو) الّتي عقدت بين الطّرفين، وفشلها فيما بعد.
لم يصل الرّاوي إلى قرار: لأيّ الطّرفين ينتمي؟ وكيف عليه أن يتحمّل تقريع أخته له عندما تسيل دماء اليهوديّ؟ وكيف به أن يتقبّل سيلان دماء العربيّ؟
إنّ كلّ تلك المتناقضات – ص 246…. قد أوقعت الراوي في أزمة نفسيّة صعبة؛ لقد اكتأب وحطّم وكسّر وصرخ، وعاتب والديه، وأنّبهما على انجابه على هذه الحياة المملوءة بكل هذه المتناقضات. وقد رفض الزّواج أيضا كي لا ينجب أبناء يتعذّبون مثله.
أرى أنّ الحالة النفسيّة التي وصل إليها إبراهيم، هي نتيجة طبيعيّة لكلّ ما مرّ عليه.
كان على الكاتب هنا أن يخرج شخصيّته من أزمته، ويوصله إلى قرار يوصله لشاطئ الأمان، ويدعه أن يعيش حياة أكثر هدوءا؛ لذلك نجده قد عمل بصورة ذكيّة خلال الرّواية على أن يتّصل مع جدّته مريم بشكل متواصل، يسمعها ويتعاطف مع كلّ حرف نابع من قلبها المتألّم المقهور المتشوّق للعودة إلى صفوريا؛ فنجده متعاطفا معها، وقريبا منها، يشكو لها ألمه وهمّه بكلّ أريحيّة، بعكس والده الياس، ووالدته، شلوميت، الّذي كان بعيدا عنهما؛ كما أنّه قد أوصله إلى صديق يدعى، أبو سريع، في جامعة بير زيت؛ والّذي علّمه حبّ الانتماء للوطن، وخاصّة حين استشهاده في احدى المظاهرات، فصار يشارك همّ الوطن، ويمشي في المسيرات والاحتجاجات.
لقد اختار الكاتب لشخصيّته أن يميل نحو الجدّة مريم ويحبّها أكثر من مريام؛ لأنّها تحمل قضيّة، أمّا مريام فرغم انكسارها والمحرقة الّتي قضت على كلّ أهلها وشعبها، فلم تشفع لها عنده. هنا نلحظ انحياز الكاتب؛ لأنّ عمل الكاتب الرّوائي يعكس رؤيته، وفلسفته، وقناعاته وتجاربه الذّاتيّة؛ الحوارلكنّي أرى أنّ انحيازه كان مباشرا، حيث كان بمقدوره أن يصنع حدثا مثيرا منطقيّا يضطرّ البطل على الاختيار والانحياز.
من خلال الأسلوب اللغوي الحواري، استطاع الكاتب حنيش أن يخلق صراعا لشخصيّاته، وبالتّالي انفرجت عنها الإثارة في شخصيّة مريم ومريام وإبراهيم؛ أمّا شخصيتا شلوميت وإلياس فلم تبدو عليهما الإثارة، حيث كانا رمزا للحياديّة، والاستسلام لكلّ ما يحدث، رغبة منهما للحياة بسلام ومحبّة بعيدا عن المعسكرين المتحاربين. يمكن أن نصوّر تلك العلاقة ما بين الزوجين، بأنّها علاقة إنسانيّة بحتة؛ رغم أنّ الأبناء اعتبرا أنّ هذا شيء من الإهمال لهما.
من خلال الحوار، استطاع الكاتب كميل حنيش أن يبرز الضّعف الإنساني بشكل عام. فالإنسان ضعيف مهما بلغ من القوّة، سواء في المعسكر الأوّل أو الثاني.
يقول الرّاوي في صفحة 262″ أصغي لصهيل الأزمنة في روحي، فأنعتق من أكاذيب التّاريخ، وأوهامه وأساطيره؛ وأنتمي للمكان”
يرى الكاتب أنّ الإحساس الإنساني الوجودي، هو الأعمق من أيّ شيء آخر في هذه الحياة، ويرى أنّ الزّمن لن يموت ص244. ربّما هي فلسفة قد تبنّاها الكاتب حول الزّمن.
وكأنّي أرى بالكاتب الأسير خلال سنوات أسره، الواحد والعشرين عاما حتّى الآن؛ قد جعلته يتصالح مع الزّمن. ويتمنّى أن ينتهي هذا الصّراع بين المعسكرين؛
ظلال الماضي ص253 + ص 250