سِرُّ اَلْجَاذِبِيَّةِ …

الأديب عبد الرحمن الراوى
طِفْلٌ أَنَا أَصْحُو فَأَتَوَضَّأُ بِأَحْضَان أُمِّي صَبَاحًا ، وَتُطَيَّبُنِي بِأَنْفَاسِهَا اَلَّتِي لَا مَثِيلَ لَهَا فِي أَسْوَاقِ اَلْعُطُورِ عِنْدَمَا تَضَمُّنِيٍّ إِلَيْهَا ، وَتُتَوَّجُنِي بِالنُّجُومِ عَلَى وَجْنَتِي وَجَبِينِي بِثَغْرِهَا ، فَأَلْمَعُ كَقَطَرَاتِ اَلنَّدَى عَلَى أَوْرَاقِ زُهْرَة حِينَ شُرُوقٍ ، فَأَطَالَ اَلثُّرَيَّا حُبُورًا ، فَتَدَثَّرْنَا بِتَمْتَمَاتٍ رَبَّانِيَّةٍ ، يَتَبَسَّمَ وَالِدِي قَائِلاً بِصَوْتٍ تَمْلَؤُهُ اَلْقُوَّةُ – اِنْطَلَقَ أَنْتَ اَلْآنَ مُحَصَّنٍ فَلَا تَخِفُّ أَحَدًا . ذَاتَ ضُحًى مَرَرْنَا أَمَامُ بَابِهِ أَنَا وَأَصْدِقَائِي ، جَذَبَنِي مِنْ يَدِي ، وَنَهَانِي عَنْ أَحْدَاثِ جَلَبَةٍ بِالْقَفْزِ عَلَى دَرَجَاتِ اَلسِّلْمِ كُلَّمَا نَزَلَتْ إِلَى اَلشَّارِعِ ، فَلَمَّا شَكْوَتهَ إِلَى أُمِّي قَالَتْ هَذَا جَارُنَا وَهُوَ مُسِنٌّ وَمَرِيضٌ وَرُبَّمَا حَزِينٍ بَعْضُ اَلشَّيْءِ ، يَا وَلَدِي هُوَ وَحِيدٌ لَا يَزُورُهُ أَحَدًا حَتَّى أَوْلَادُهُ ، إِلَّا نَادِرًا ، رُبَّمَا أَزْعَجَهُ فِعْلُكَ ، فَتَرَفَّقَ بِهِ ، سَاعَتُهَا حَزِنَتْ قَلِيلاً ، وَأَصْبَحَتْ أَفْضَلُ اِسْتِقْلَالِ اَلْمِصْعَدِ ، وَفِي اَلْمَسْجِدِ اِبْتَسَمَ لِي وَجَذَبَنِي بِرِفْقِ وَقَبِلَنِي وَأَوْقَفَنِي إِلَى جَانِبِهِ فِي اَلصَّلَاةِ نَظَرَتْ إِلَى أَبَى ، اِبْتَسَمَ نِصْفُ اِبْتِسَامَةٍ ، وَأَوْمَأَ لِي بِالْمُوَافَقَةِ ، وَفِي اَلْيَوْمِ اَلتَّالِي جَذَبَنِي إِلَيْهِ بِهَدِيَّةِ قِيمَةٍ ، أَحْبَبْتُهَا كَثِيرًا عِنْدَمَا اَهْدَانِيهَا ، كَانَ ثَمَنُهَا مُرْتَفِعًا ، كَانَ يَرَانِي عِنْدَمَا سَاوَمَتْ اَلْبَائِعَ عَلَيْهَا بِالْأَمْسِ ، صِرْتَ لَا أَخَافُهُ بُعْدَهَا ، وَلَمْ يَعُدْ يَجْذِبُنِي اَلْمِصْعَدُ ، وَرَغْمُ أَنَّى أَتَحَسَّسُ اَلْخُطَى أَمَامَ شَقَّتِهِ وَلَمْ أَعُدْ أَصْدَرَ جَلَبَةً ، أَجِدُهُ يَفْتَحُ اَلْبَابُ وَيَهْدِينِي اَلشِّيكُولَاتَةَ اَلَّتِي اِعْشَقْهَا ، نَظَرَتْ إِلَيْهِ بِتَعَجُّبٍ ! ! ! سَأَلَنِي عَنْ سَبَبِ حَيْرَتِي وَعَدَمِ اِسْتِقْلَالِيٌّ لِلْمِصْعَدِ ، أَجَبْتُهُ صِرْنَا كَمَا قُلْتُ أَصْدِقَاءٌ وَلَمْ أَعُدْ اَخَافكْ ، وَلَكِنْ كَيْفَ تَعْرِفُ أَنَّى إِمَامِ شَقَّتِكَ ؟ ؟ ؟ نَظَرٌ إِلَى أَعْلَى وَابْتَسَمَ وَقَالَ تَجْذِبنِي رَائِحَتُكَ أَيُّهَا اَلْوَسِيمِ . مَرَّتْ سَنَوَاتٍ ، وَاسْتَوْقَفَنِي ذَاتَ عِتَابٍ لَمْ يُطِلْ اَلْحَدِيثُ فَأَرْسَلَ لِي بَرْنَامَجًا عَلَى هَاتِفِيٍّ وَأَعْطَانِي كَلِمَةَ اَلسِّرِّ . أَفْرَجَتْ عَنْ اِبْتِسَامَةٍ مُوجِعَةٍ صُحْبَتُهَا دَمْعَةً ثَقِيلَةً لِمَا رَأَيْتَ وَالِدَتِي تَتَطَلَّعُ مِنْ اَلشُّرْفَةِ لِتُرَاقِبَ جَلَبَةَ اَلشُّرْطَةِ فِي اَلشَّارِعِ ، – سَأَلَتْنِي مَاذَا يَحْدُثُ ؟ ؟ – أَجَبْتُهَا لَمْ أَسْأَلْ عَنْ جَارِنَا مُنْذُ أُسْبُوعٍ وَلَمْ يَخْرُجْ لِلصَّلَاةِ كَعَادَتِهِ وَلَمْ يَنْتَظِرْنِي وَيَجْذِبُنِي لِيُعْطِيَنِي اَلشِّيكُولَاتَة ، – اِسْتَطْرَدَتْ تَسْأَلُنِي أَلْفَ سُؤَالٍ بِنَظْرَةٍ شَاخِصَةٍ مُتَلَهِّفَةٍ . – أَجَبْتُهَا أَسَفًا ، لَقَدْ نَمَتْ صَدَاقَتُنَا حَتَّى أَصْبَحَتْ كَعَلَاقَتِهِ بَابْنَاءَهْ ، حَتَّى اَلْبَرْنَامَجِ لَمْ أَفْتَحْهُ ! ! ! وَضَعَتْ يَدُهَا عَلَى صَدْرِهَا تُثْبِتُ قَلْبَهَا اَلْهَلَعَ . فَتَحَتْ هَاتِفِيٍّ أَمَامَهَا أَدْخَلَتْ كَلِمَةَ اَلسِّرِّ لِلْبَرْنَامَجِ ، وَجَدْنَاهُ فِي سُبَاتٍ ، – قَالَتْ : مَا مَعْنَى هَذَا ؟ – مَاذَا يَحْدُثُ ؟ ؟ – أَجَبْتُ أَبْلَغَتْ اَلشُّرْطَةُ لِمَا جَذَبَتْنِي اَلْيَوْمِ رَائِحَتَهُ .
اَلْأَدِيبُ / عَبْدُ اَلرَّحْمَنْ اَلرَّاوِي