قراءة سوسن وعثمان للكاتبة أمل بورتر
بغداد وشوارعها وأسواقها،إلى جانب ما ذكر في فصول الرواية من أسماء شخصيات عامة وشوارع،وبعض الأغنيات التراثية العراقية،وقبل أن أكمل قراءة جميع الفصول كان لزاماً عليّ سماعُ تلك الأغنيات كي يكتمل المشهد الملحمي،
وتنتهي الرواية بالقارئ في فندق الملك داوود في القدس المحتلّة
أو ربما تبتدىء وجدانيّا .
فهناك دائما خيط استشراف يسحبك من الحيّز الذي أنت فيه لتشتَمّ رائحة المكان الذي يُراد لك أن تتلمسّه من خلال لوحةٍ ، صورةٍ أو نغمةٍ بصوت مطربٍ عتيق وهذا ما حصل ..
القبنجي”الكُبّنّجي” وأغنيته يا نصارى، استمعت إلى اللقاء الذي أجري مع الفنان محمد القبنجي في 18-5-1972، لم تكن الإشارة إلى هذه الأغنية تحديدا عبثًا إنما إشارة غيرُ مباشرة حول الأحداث الّتي تعرض من خلالها الفنان القبّنجي للاتهام يإهانة مسيحيي فلسطين من خلال كلمات الأغنية،وما ترتب على تلك التهمة ،من محاكمة ودفع غرامة وعقاب أسري،إلى جانب البعد السياسي،ويبرز المكان لديها في محطتين أساسَين هما ،بغداد،والقدس في الواقع المعاش المُثبَت تاريخيا عن علاقة القدس ببغداد،كذلك هما هنا بين السطور وفي عميق الفكرة .
ولأنّ الواقع يكفي ليصنع خرافته وأساطيره جاء نقد الخرافة في الروايات العربية في أحد الفصول بطريقة رمزية خاصة، وعلى لسان سوسن بأسلوب طفولي،ص 70،71 وربما هي وضعُ ثقل في كفّة براءة الطفولة في ميزان الأدب العربي المعني بالأسطورة ربما يرجح بكلّ ذاك التناسي لها ، فحين تطمسُ جماليات الطفولة وعفويتها يكون نتاجُها شخصيةً ينقصها نصف تلقائيتها كي نراها بعين الرِّضى .
وتحدثت الكاتبة عن البيئة الدينية والاجتماعية للمجتمعات في محيطها ولم تتطرق ولو بسطر إلى طقوس بيئتها الدينية على المستوى الأسري.
)صاحت حسينية: -لن أسمح لها بالزواج من رجل مسلم بعد أن جرى ما جرى لنا على يد المسلمين(.”ص 136
وكان أن جُعل الحوار بمفردات عامية وباللهجة العراقية خاصة في أجزاء عدّة من الرواية حيث بدت حميميته وملامسته للوجدان ، فحين تتحدث الروائية عن أماكن وبمفردات محلّية تسحبك لتعيش الحالة بكامل تفاصيلها مقحمة إياك في لجّة النص حتّى تكاد تشعر أنك إحدى تلك الشخصيات أو مررت بتلك الشوارع والأزقة وتنشّقت الغبار العالق بالجدران والشناشيل المُعلّقة بالبيوت تحت وطأة الخيبة المُحْكمة.
لتأتي صرخة موجعة مدويّة عن واقع مرّ المعايشة يفيض قهرًا في قرارتِه على لسان وجَنانِ.
حاجب المحكمة،ستّار
“بغداد مرتع الضيم والخوف،المتكبرة بضجيجها المفتعل،المتعالية بتاريخها الذي لم تتعض منه،العصية حتّى على أبنائها.” ص- 45
ينصرف البعض في فهم النص إلى الخلط بين المروي له أو عنه من جهة،وبين الكاتب من جهة أخرى،لكن في هذه الرواية لا يمكن الخلط لكون الكاتبة جعلت كلّ راوٍ كاتبًا آخراً للرواية بطريقة إعادة تشغيل الشريط playback.
وللحديث شجونه عن بغداد _” لأنها تحتضن من يخضع لها وتعطيه دفقة معلومة من عواطفها،وتطعمه شهدًا محدودًا مختلفَ المذاق والحلاوة،يجعلك تدمن عليه ولا فكاك عنه،تأسرك بالقليل مما تمنح،وتوهمك بأنها قد أعطتك ما تتمنى،تبقى تخدعك وأنت منتش بالخديعة.”ص46
تلك وجبة إبداعية
أسلوبها في السّرد جديد عليّ،كل فصل تحكي باسم الشخصية الّتي يتمحور حولها الحدث،جُعلت كل شخصية راويةً بحد ذاتها،كأنها مجموعة روايات في واحدة وكلّ شخصية تروي الحدث من زاوية أخرى لا تشبه منظور من سبقه في القَصّ،.ولو تم اقتطاع كل شخصية وجمع فصولها ستكون رواية تنطلق بأحداثها وتتميز بشخوصها.
وبوصفي قارئة وكاتبة ربما أكون عادية أو أكثر من عاديّة بقليل وقفت عند الصفحة 101 والكاتب الذي لا ينظر للأرقام بإشاراتِها وإحالاتِها التراثية والرمزية يظلّ فهمه لما يكتب ناقصا،ففي الصفحة 101 وفجأة تبدأ الروائية هذا الفصل دون عنوان أو اسم بطل الجزء :”سيدي الرئيس ترومان.”
” مشروعي يتكون من ثلاثة بنود:
البند الأول من مشروعي هو القضاء على الفساد الذي يسببه الإنجليز في العراق”
خلاصة الرسالة تشكل دعوة إلى الولايات المتحدة الأمريكية لجلب قواتها إلى العراق نكاية بحلفائها الانجليز ،وهنا كانت الروائية تمارس نوعًا من أنواع الذكاء لإسقاط بعض القرارات السياسية منها القرار رقم 101 لتعيدك إلى قضية الآراميين قبل خمس مائة وألف قرن قبل الميلاد .وهذا يضعنا أمام رواية هرمية تشبه نظام المعسكرات الداخلي، بعد الإطلاع على القرار مائة واحد وجدت أن الروائية “ربما”كانت توجه انتقادًا حادًا من خلال وضع الرسالة المجهولة الهوية بمطالبة الولايات المتحدة بإحلال العدالة في بلاده
قرار رقم 101 (1953) بتاريخ 24 تشرين الثاني (نوفمب)1953 إدانة إسرائيل لهجومها على قبيه في 14 – 15 تشرين الأول (أكتوبر1953 .
وتنتهي الرسالة:” سيدي الرئيس نسألك أن تحافظ على نسيج بلدنا المتعدد الأطياف والأفكار والأديان والقوميات،وأن تدعم السلام والتقدم،ومردود ذلك سيكون نفعا للعالم أجمع ونحن على ثقة من اهتماماتكم بسلام وخير وتقدم العالم أجمع.”
الغرفة 101 في فندق الملك داوود القدس وسِفر المزامير 101 الرقم لا أدري كيف قادتني قراءتي دَاوُدَ. مَزْمُورٌ 101بعد أن أخذتني إلى القرارات الدولية بالشأن الفلسطيني منذ وصلت في قراءتي صفحة 101 والّتي بدأتها الكاتبة بطريقة مختلفة عما سبقها ولحقها.
وأيّا كان الرقم .. فأنّنا من خلال مخاطبات الرواية التي اندرجت تحته وبين جنباته تظلّ الأرقام مشرّعة للزيادة والنقصان، إن كان على سبيل المجازر والقتل، نفسياً وبدنياً- .. أو كان على سبيل سنوات الاحتلال أيّ احتلال سواء أكان في فلسطين أم العراق أم في غيرها من بقاع الله التي خلقها الله من غير سياج وغير محتلين .
الكاتبة أمل بورتر بريطانية من أم عراقية تدرس تأريخ الفنون
ووالدها انجليزي،لكنها عاشت طويلاً في العراق ،نحن بصدد التعرف إلى روائية ذكية ولمّاحة في آن معًا.
وختامًا من الملاحظ عناية الناشر بتفاصيل الغلاف التي جعلت منه حكاية أخرى،الرواية صادرة عام 2009 عن دار فضاءات للنشر والتوزيع عمّان_الأردن.