قراءة في رواية لعماد دبّوسي

مدائن منتصف الوهم.. خطوط العرض.. خطوط الطّول..
( قراءة في رواية لعماد دبّوسي )
بقلم: حسن سالمي – تونس
نقطة عبور:
أمام أسواط الوقت التي تشتدّ علينا عادة في مثل هذه المحافل، فإنّ هذه القراءة تجد نفسها مضطرّة إلى أن تتخيّر ناحية نقديّة بعينها.. توسّمت فيها تعميم الفائدة، ورأت بها ضرورة الخروج عن نمط نقديّ، لم يتجاوز دوره شرح النّصوص والتّعليق عليها..
وبما أنّ الرّواية عالم فنيّ قبل كلّ شيء.. نجاحها يتوقّف على هذا الشّرط ..فإنّ هذه القراءة تحاول ولو جزئيّا أن تتقصّى هذا الجانب في رواية مدائن منتصف الوهم للرّوائي عماد دبّوسي وتناقشه الطّريقة التي توخّاها في تقديم عمله.. ومن ثمّ هي تتولّى دراسة الرّاوي في النّص، والوقوف عند طبيعته ووظيفته والزّاوية التي ينظر منها، والهنات التي وقع فيها..كذلك تهتمّ بالحدث كعنصر ملفت للانتباه في الرّواية، تميّز بقوّةِ التّصميمِ، وجمالِ الحركةِ، وسلاسةِ النّشأة .. دون أن تغفل عن طغيان سلطته، وآثارِ ذلك على بقيّةِ العناصر الأخرى.. مثلما تتعرّض أيضا إلى جوانب ذات صلة بشكل النّص، تعمّدت مخالفته الرّأي حتّى تعرِض للرّؤى الأخرى..
النّص في لمحـة:
تعدك مدائنُ منتصفِ الوهم من أوّل صفحاتها، أن تظلّ مشدودا إليها.. تلاحق أحداثا ما انفكّت تتناسل وتنتشر حتّى آخر جملة.. تحثّ خيالك على الرّحيل من قارة إلى أخرى، ومن أرض إلى غيرها.. كأنّها تريد أن تحوّلك إلى شاهد على حقائق وخفايا، كانت وما زالت تجري بعيدا عن أعين الرّقباء..
إنّ التّحدي الذي واجهته هذه الرّواية، هو الخوض في عالم غامض بعيد الهوّة.. لا تتوفّر منه إلا مادة مثيرة للجدل .. غائمة الملامح.. نصفها من الحقيقة.. ونصفها الآخر من الوهم..
ما ظنّك أن تجد نفسك يوما على أعتاب الماسونيّة؟
ماذا تفعل وأنت تجد نفسك فجأة في قلب الكمّورة.. تلك المنظّمة الشّهيرة التي تبسط ظلامها على جنوب ايطاليا..؟
ما ظنّك وأنت الهارب من جحيم الخوف والجوع، ومن ضباب المصير في بلدك ..أن تجد نفسك بين فكّي وحشين ممسوخين.. كلاهما يطلب دمك، لسرّ خطير اطّلعت عليه، أو لشيء سقط منه في يدك؟
إنّ الخوضَ في عالمٍ تلك صفته.. والمراهنةَ على كشفه وفضحه بأدوات الرّواية ومنطِقها الفني، لهي مغامرة شاقّة، تطلّبت بحثا مضنيا في كلّ جزئيّة من جزئياته الدّقيقة.. وتقصّيا مرهقا لتفاصيل خفيّة يحياها إنسان ذلك العالم.. ولا شكّ، أنّ كواليس البحث والإعداد والتّجميع لهذا العمل، استغرق وقتا أطول بكثير، من ذاك الذي استهلكه للخروج من ظلمات القريحة إلى بياض الورق.. وهذا فيما أقدّر أهمّ مكسب للرّواية عموما، إذ أضحت كتابتها – وهي تواجه تحديات جمّة، ومنافسة شديدة مع وسائل ترفيهيّة وفنيّة أخرى- في حاجة ماسة إلى أن تبذل قدرا كبيرا من الجديّة والصّبر، والقلق والجهد، وتقليب النّظر في كلّ ناحية من نواحيها الكثيرة.. وأحسب أنّ الرّواية التي بين أيدينا، ذهبت في هذه النّاحية، وحسبها ذلك.. بقطع النّظر عن النّتائج التي توصّلت إليها أو الطّريقة التي ساقت بها خطابها…
الرّاوي.. أشواق الحاضر.. هنات الماضي..
الرّاوي كان عليما بالأشياء.. محيطا بخفاياها الصّغيرة والكبيرة.. سلسا في حركته.. سريعا في تنقّله.. طُويت له الأرض، فإذا المسافات أهونُ لديه من أن يقلّب صفحة في كتاب، أو يقفز سطرا أو سطرين..
قدرته مطلقة كإله.. مصائر الشّخوص وتحديد مآلاتها في يده.. أحيانا يتميّز بالذّكاء وحسنِ التنكّر والاختباء وراء الأقنعة.. فلا يكاد القارئ يراه أو يسمع له ركزا.. ذلك أنّه يدير عمله من مكان خفي.. فيظلّ أغلب الوقت يحرّك حزمة من الخيوط متواريا عن الأنظار.. متستّرا بشخوصه التي منحها هامشا واسعا من الحريّة، الشيء الذي مكّنها من التّباين والتّمايز فيما بينها.. خصوصا على مستوى طبائعها، وسلوكياتها ومواقفها وأنماط تفكيرها.. مما سهّل عليه المواربة والمراوغة، وتفريق رسائله على أضداد الأشياء ونقائضها..
وفضلا عن أنّه استطاع أن يدفع بالأحداث إلى أوجها.. وهو الذي أُوكل إليه توليدها وتوزيعها على المساحات والشّخوص.. فإنّه أحسن المراهنة على مبدأ الإيهام بالواقعيّة.. إذ لعب على ذهن القارئ ووظّف أوهامه، حتّى ليخيّل أليه في لحظة من اللّحظات، أنّه يعيش واقعا حقيقيّا، وليس مجرّد خيال جامح يسبح في ذهن كاتبه.. ولعلّ هذا مردّه إلى الخدعة التي أقامها على تشتيت تركيز المتلقّي.. وذلك بواسطة أدوات وتقنيات مختلفة، يحشدها جميعا في مساحة ضيّقة.. ثمّ يفجّر منها مزيجا هائلا من الألوان والأصوات والظّلال والمواقف والرّؤى…
بيد أنه في أحايين أخرى، تسقط عنه تلك الأقنعة لهفوة غير محسوبة، وربّما لمشاعر جمعيّةٍ تخرج عن السّيطرة.. فجأة يتعرّى وجهه، وتنفضح نيّته.. فنجده ينحاز إلى جهة دون أخرى.. حاشرا الذي يُضمِر له العداء في زاوية ضيّقة.. لينهال عليه باليمين والشِّمال..
إنّه وحالته هكذا، يجعلنا نتأسّف على تقهقره المفاجئ، وعودته غير المحسوبة إلى أخطاء النّشأة الأولى.. حين كان الرّاوي مجرّد ظلّ للكاتب.. ليس بينه وبين الكون الذي ينتمي إليه أيّة فواصل تذكر..
وهنا يكون السّؤال: ما الرّاوي؟
هل هو أداة فنيّة من الأدوات الكثيرة التي يلجأ إليها الكاتب لإقامة نصّ سرديّ.. على غرار الأزمنة والأمكنة والأحداث والشخصيات، والمواقف والبدايات والنّهايات والرّؤى والضّمائر واللّغة؟
أم هو مجرّد قناع من الأقنعة الكثيرة التي يتستّر خلفها الكاتب، لصياغة رؤيته ومواقفه وايدولوجيته الخاصّة، في بنية عمله السّردي؟
لا شكّ أنّ الرّاوي في مسيرته الطّويلة شهد تحوّلات كبرى، تعلّقت بوظائفه ومواقعه وطبائعه وأصنافه ومجالات نظره وعلاقاته الداخليّة والخارجيّة.. فبعد أن كان متصاديا مع الكاتب، يعكس ظلّه على النّص.. استقلّ عنه وصار يطمح إلى أن يعكس كلّ الكون بجميع أطيافه وألوانه ونسبه وظلاله وأبعاده وتناقضاته واختلافاته.. ممّا فتح في وجهه آفاقا أوسع، مكّنته من تعديد الخطاب والأصوات والضّمائر ووجهات النّظر..
من ذلك أنّ الرّاوي الواحد تحوّل إلى رواة.. ليس فقط على مستوى العائلات الكبرى الثّلاث المعروفة- في دنيا السّرد.. بل داخل العائلة الواحدة انقسم على نفسه واكتسب خصوصيات مختلفة، لها علاقة وثيقة بالزّمان والمكان والرّؤية والطّبع والموقف وغير ذلك.. فالرّاوي العليم مثلا، لم يعد ذلك الكلّ غير القابل للتّجزئة.. الرّاوي المتساوق الذي ينقل الحدث لحظة وقوعه، ليس كالرّاوي الذي ينقل الحدث بعد وقوعه.. يُفترض في الأوّل الدقّة والحياد ونقل الواقع كما هو.. وتصويره تصويرا فوتوغرافيّا يضمن المحافظة على تناقضاته وثيماته الدّقيقة…
بينما والرّاوي الذي ينقل الحدث بعد وقوعه.. أي ينقله من الذّاكرة وليس من الواقع مباشرة.. أو بعبارة أخرى يقدّم شهادته في زمن غير زمن وقوع الحدث، فإنّه ها هنا يتخفّف من قيود الأمانة والحياديّة
فيصير غير ملزم بها.. ومن الطّبيعي والحال هكذا أن يتأثّر منطوقه بمزاجه وطبيعته.. إمّا صدقا أو كذبا.. وإمّا أمانة أو سفها…الخ.. الخ…
ما أريد أن أخلص إليه، أنّ الرّاوي ككائن فنيّ لم يكن جامدا ميْتا طوال تاريخه، غير قابل للتّحول والتّطور والإضافة والتّحوير.. بل هو على العكس من ذلك.. كان قِبلَةً لاهتمام أرباب الرّواية والنّقد، ومجالا للمنافسة والتّنظير… وعليه فإنّ كلّ رواية جديدة تخرج إلى النّور، حريّ بها أن تكون مسؤولة إلى حدّ ما عمّا يمكن أن تضيف إلى هذا الكائن.. دون أن تعيش عالة على إبداعات روائيّة أخرى، تفوّقت عليها في الصّناعة والابتكار…
فهل حقّقت مدائن منتصف الوهم تلك الإضافة.. هل جعلتها من أولوياتها؟
عموما استطاعت أن تتجاوز النّشأة الأولى بمراحل.. ويبدو أنّ هاجسا من ذلك النّوع الذي كنّا نتحدّث عنه لم يراودها.. اكتفت بتقديم راوٍ ليس بدعا من الرّواة.. لكنّها أكسبته طبيعة حداثية تجاوز بها خنق الشّخوص والإنابة عنها في الكلام.. إذ حرّرها على نحو ملحوظ.. لم يكبّل حركتها ولم يجعلها أسيرة له، ولا إلى الكاتب على الأقلّ في الظّاهر.. ميّزها بسلوكياتها وأنماط تفكيرها الخاصّة.. وبيّن ملامح القسم الأهمّ منها.. سواء من ناحية فضاءاتها النفسيّة، أو أبعادها الجسمانيّة.. ومع ذلك لم تمنعه هذه الميزة من أن يظلّ وفيّا إلى الرّاوي القديم، من حيثُ أحاديةُ صوته وحضوره المطلق.. ممّا يعني أنّه مازال يكرّس النّظرة الفردانية للأشياء.. ويؤكّدها بدلا من أن يطيح بها، ويحطّمها ويفكّك سلطتها المستبدّة..
وكأنّه لم يع بعد أنّ ” الرّؤية الضيّقة للرّاوي لم تعد مقبولة للتيّار الجديد.. الذي يدعو إلى تعدّد الأصوات في إطار المنظورات المتعدّدة والمستقلّة داخل الرّواية.. لأنّ الرّؤية الأحادية للرّاوي، لم تعد مقبولة أو محتملة.. لتحلّ محلّها الرّؤية النسبيّة المتعدّدة، والمتشعّبة في البنية النّصيّة للرّواية”1
أمثلة تطبيقيّة:
* الرّاوي في الفصل الأوّل من الرّواية، خصوصا وهو يضعنا على عتبة ذلك العالم الغامض.. كان عديم الظّهور تقريبا.. رغم أنّه هو الذي يدير عجلة السّرد.. أحسن الاختفاء من خلال تنقّله السّريع وتبديل مواقعه.. كان إلى جانب ذلك وهو يمنح الشّخوص حقّها في الكلام، يضرب المثل على نضجه، رغم صعوبة الدّور الذي يلعبه.. إذ حركة الرّاوي العليم، وإن أوحت بحرّيته الواسعة، هي في الحقيقة تخضع إلى شروط وضوابط تفرضها اللّعبة السرديّة.
* جاء في الصّفحة 28 و29 ” كانوا شبابا يتلهّفون للهجرة.. آملين في حياة أفضل.. كانوا قد سئموا مراقبة أعمارهم وهي تتآكل، وأحلامهم وهي تتلاشى إلى اللاّشيء…” الخ.
في هذا المقطع خروج واضح للرّاوي عن دوره الطّبيعي، وسقوطه في المباشرتيّة والتّقرير، والإنابة في الحديث عن الشّخوص.. إذ كان الأولى أن تتولّى هي الحديث عن أنفسها بأنفسها.. من ناحية يثبت العمل وجها من وجوه استقلاليتها.. ومن ناحية أخرى يستثمر الحريّة التي تنبغي أن تكون لها، في سبيل تمرير رسائله إلى المتلقّي، عن طريق الحوار مثلا، أو عن طريق المنولوج، أو راوٍ منها…
* جاء في الصّفحة 122.. ” صُدِموا الفتية بما سمعوا.. ولكنّ البعض منهم اختلط عليه الأمر فرأوه انتقاما من أمريكا، لما تقدّمه من دعم غير محدود للاحتلال الإسرائيلي، في حربه على
الشّعب الفلسطينيّ الأعزل.. ولكنّهم جميعا لم يتخيّلوا العواقب المدمّرة لما حدث، وحجم انهار الدّم الذي يراق.”…
مرّة أخرى يسقط الرّاوي العليم في فجاجة واضحة، ويسجّل انحيازه ألاّ مشروط إلى قضيّة
بعينها، ويسقط أسيرا في مباشرتيّة يأباها الفنّ..
إنّ سياقات الكلام، ومواضعه ومناسباته، هي التي تحدّد استساغته من عدمها.. انظر مثلا قطعة الخبز، ما إن تتحوّل من مائدة الطّعام إلى الأرض المتربة، أو سلّة الفضلات، حتى تتبدّل نظرتنا إليها، رغم أنّها هي نفسها حجما وشكلا ولونا،لم ينقص منها شيء.. فهل وصلت الرّسالة؟
الحدث.. جمال الحركة.. طغيان السّلطان..
أكثر ما يلفت انتباهك في مدائن منتصف الوهم، الحدث.. إذ اكتسب قدرة فائقة على التفرّع والتّشعب والذّهاب بعيدا في شتّى النّواحي، عبر أحقاب مختلفة، وأمكنة متفرّقة..
كان واضحا أنّ هذا العنصر القديم المتجدّد في العرف الرّوائي، يتدفّق من نهر فيّاض لخيال خصيب.. فالحدث ليس مجرّد حالة عمياء تحدث في الفراغ.. بل قطعة من الحياة يستنسخ عنها، القوّة والحرارة والحركة والاندفاع، واللّون والنّور والظلّ والظّلام والصّورة والصّوت.. إلى غير ذلك من الخصائص والتّفاصيل.. ليس هيّنا أن تحتضن الرّواية أحداثا ما دون أن تسخّر لها الوسائل السرديّة الممكنة..حتّى تبدو أكثر منطقيّة، وأقرب إلى الصّدق، غير باردة ولا ميتة..
وخلاف ما يذهب إليه بعض التّجريبيين، فإنّ عماد دبّوسي من خلال أثره، يعتبر الحدث عنصرا فاعلا لم يستنفد أغراضه بعد.. ويرى أنّ أرضه ما زالت تزخر بفرص جماليّة ودلالية، تستحقّ مزيد البحث والتّنقيب.. بل يراه مِفصلا أساسيّا في البناء الرّوائي.. تبدأ منه وتنتهي إليه كثير من الأشكال والأساليب والأنماط المختلفة، ذات الصّلة بعناصر الرّواية الأخرى… ومن هنا كان الحدث في مدائن منتصف الوهم، يحمل روحا ديناميكيّة حيّة، تعاملت وتفاعلت مع حزمة هائلة من الخيوط، لم تكفّ عن التّوالد والتّناسل طيلة دوران عجلة السّرد.. وأمام هذا الحراك الكثيف، ولدت حركة قويّة مندفعة، شكّلت إيقاعا متسارعا يحبس الأنفاس أحيانا، ويُشْكِلُ الفهم على القارئ أحيانا أخرى..
والحقيقة ما كانت حالة التّشويق الدّائمة في النّص، أن تنشأ لولا سلاسة الأسلوب، وشفافيّة اللّغة التي قدمته.. فضلا عن أدوات وتقنيات أخرى، كالتّدويل والتّقطيع والمراوحة، وتنويع المناظر، وتعديد الأمكنة والأزمنة، وتحريك العدسة الرّاصدة.. والاشتغال على الحوار والتّصوير واللّقطة والمشهد… وما إلى ذلك…
لقد كان الحدث فعلا ملفتا للانتباه.. إذ تميّز بقدر بين من الجمال والتّناسق.. لكن هل راعى مبدأ التعدديّة.. وهل احترمت سلطته السّلطات الأخرى.. أم تُراه تعدّى عليها وافتكّ منها مساحاتها الطبيعيّة؟
من السّهل على متتبّعه ومقتفي آثاره، أن يكتشف أنّه السّبب الأوّل والأخير لنشأة النّص.. وكأنّ مدائن منتصف الوهم برمّتها، وبكلّ ما تحمل من تفاصيل ومعالم خلقت لأجله وحده.. فهو المغزل الوحيد الذي تدور حوله الأشياء.. والسرّ في نشوء حركتها..
وكما هو معلوم، فإنّ الكون الروائيّ لا يقوم على عنصر واحد..بل هو رهين توازن ما يحدث بين مختلف عناصره ومكوّناته.. كل عنصر يمثّل سلطة مستقلّة بذاتها.. لا يجوز أن تنكمش لصالح سلطات أخرى.. مثلما لا يجوز أن تتّسم بالهيمنة والاستحواذ.. ذلك أنّ نجاحها مرتبط بمدى تفاعلها الايجابي مع العناصر الأخرى.. دون أن تفقد ماهيتها وخصوصيتها أو حقّها في الحضور..
والحقّ، أنّ قيام التّوازن في بنية الرّواية من الجانب النّظري، ليس لمجرّد ترف ذوقيّ، يعكس الرّغبة العمياء في مسايرة الموضة.. بل هو ضرورة ملحّة تقتضيها فلسفة الشّكل.. من ناحية، على اعتبار أنّه يعكس رؤية صاحبه وموقفه من العالم.. ومن ناحية أخرى تقتضيها أهداف الأدب عموما، وهي معانقة الجمال وتحقيقه في أبهى صوره..
إذن أمام كلّ تجربة روائيّة تصوّران.. عليها أن تعي جيّدا مآلات كلّ منهما، وخلفياتهما، قبل أن تتخيّر أحدهما عن الآخر.. أمّا الأول فتصوّر قديم مازال يدفع به إلى ساحة السّرد عدم الانتباه أو ربّما التّماهي في أجواء الدّيكتاتورية وامتلاء الصّدر بهوائها، وتغلغلها في العقول الباطنة.. وأمّا الثّاني فتصور أولده الوعي الشقيّ.. فطن قبل غيره إلى قبح الأوّل، فأرجع مأساة البشرية إلى دورانها حول قطب واحد، وإلى إعلائها الفرد المتغطرس على من سواه.. ومن ثمّ رأى ضرورة في أن ينشد آفاقا أخرى للجمال، من خلال تحطيم منطق الاستعلاء والاستحواذ، واختزال الفعل في عنصر واحد، أو في جهة بعينها.. على اعتبار أنّ الأدب عموما، والرّواية خصوصا لا يحمد لهما الاستكانة إلى الموجود القائم.. بل خلخلته وتفكيكه وإعادة تركيبه، خصوصا على مستوى منظومة قيمه وقوانينه التي يتحصّن بها..
أمثلة تطبيقيّة:
أدّى تغوّل سلطة الحدث على العناصر الأخرى إلى امتداد بعض الظّلال القاتمة على جمال النّص يمكن أن نذكر بعضها كالتّالي:
* أدّت هيمنة الحدث إلى خلل في توزيع مساحات السّرد.. وتطويعها إلى خدمته دون أهداف ووظائف تناسبها في السّعة والامتداد.. مما أثّر على حركته هو نفسه، وجعلها تدور في فراغ واسع.. من ذلك مثلا:
* تخصيص نصف الرّواية تقريبا لاستعراض عمليات نوعيّة، نفّذتها عصابة الكمّورة، بقيادة شبراينو.
* استهلاك مساحة مهمّة من النّص تفوق الثّلث، في تغطية أحداث الرّحلة، التي قام بها مسحوقون اجتماعيّا، من تونس إلى ايطاليا عبر سراييفو..
من الواضح أنّ الرّواية أرادت أن تبلّغ من خلال المثالين السّابقين، رسائل تتعلّق أساسا بفضح عالم الجريمة من جهة.. وبالكشف عن معاناة شريحة من الشّباب تضطرّها ظروفها القاسية إلى ركوب الموت من جهة ثانية.. هذا مفهوم وواضح وهو محلّ تقدير ولا شكّ.. غير أنّ اختلافنا يتمثّل في حسن استغلال مساحات السّرد، وحشدها بأكثر ما يمكن من الأهداف والقضايا والوظائف.. ذلك أنّ المساحة السرديّة أشبه ما تكون بالأرض الخصبة..لا تؤتي أكلها كاملاّ إلاّ بالتّحكم الدّقيق في كلّ جزء من ترابها.. وندبه إلى وظائف عديدة تثري النّص، وتفتح في وجهه أبوابا أخرى للجمال والابتكار..
* انفجار الإحداث وانتشارها الهائل بنسق متسارع ، أدّى إلى إجبار عدسة السّرد على عدم التّحديق في كثير من المسائل والقضايا ، مناخ الرّواية عموما كان قادرا على طرحها واستيعابها في أكثر من بعد.. الشّيء الذي أدّى إلى تسطيح النّص، وأثّر عليه سلبا بشفافية غير مطلوبة، حصرته في ظاهره المنطوق، دون منحه فرص الدّفع إلى التّأويل، والقدرة على إثارة الجدل والسّؤال.. ومن ثمّ حرمه إلى حدّ ما، من ضمان حياة أخرى، تتجدّد بالقراءة المولِّدة بتعاقب الزّمان..
* نلاحظ أنّ المكان في الرّواية، حين كانت عجلة الأحداث تسير ببطء وهي بعد لم تصب بالجنون.. كان يأخذ أبعادا جماليّة من ناحية التّصوير والإيحاء.. حتّى لكأنّنا نشعر ببرد باريس في ذلك العام من سنة 1984.. فنكاد نَمُسُّ بأيدينا الثّلج المتساقط من السّماء، وهو يتزيّن بأضواء ليلة الميلاد.. لكن مع ارتفاع وتيرة الأحداث، وما نجم عنها من سرعة العدسة التي تقطّعت أنفاسها في محاولة
لاستيعاب حركتها، حتّى انسلخ المكان عن فلسفته وأبعاده المرجوّة.. وتحوّل إلى مجرّد حاضن أخرس للأحداث، وإلى ديكور صامت مجرّدٍ من الشّفرات، التي بإمكانها استفزاز ذهن القارئ، ودفعه إلى التّأويل وإعمال الخيال.. كان يمكن على سبيل المثال، أن توظّف الرّواية الأماكن في قفصه، توظيفا دلاليّا وفنيّا يأخذ أبعادا أخرى.. مثل البعد النفسيّ للشّخوص، التي يحكمها البؤس وضباب المصير وسواد الأفق.. ومثل البعد الاجتماعيّ من خلال تصوير مسكن البطل، ونقل تفاصيله التي تعكس حالة معينّة.. ومثل البعد التّاريخيّ والمعماري والسّياحيّ بواسطة تصوير الأماكن الأثريّة، وشحنها برسائل عديدة تسهم في اغناء النّص، وإخراجه عن المألوف السّائد..
* طغيان الحدث، أدّى إلى قلب سنّة كونية طبيعيّة لن يجد الإنسان لها تحويلا.. فإذا كان الإنسان في دنيا الواقع هو الذي يصنع الحدث، فإنّ الأخير هو الذي صنع الإنسان في مدائن منتصف الوهم.. فكانت النّتيجة أن أصيب القسم الأعظم من الشّخوص بضعف واضح على مستوى البناء.. فغامت ملامحها، وطُمست معالمها الداخليّة، وتحوّلت إلى ظواهر صوتيّة خافتة النّبرة.. وإلى أشباح مسلوبة الإرادة، تحقّق وجود غيرها دون أن تقدّم شيئا لأنفسها..
من ذلك وأنّه حين انسدّت المخارج في وجه الحدث، ولم يتمكّن من مرونة الحركة والانتقال، أو حتّى التمهيد لها.. فإنّ فجائيّة ظهور الشّخوص فرادى في مواضع معيّنة، وجماعيّة في مواضع أخرى، صارت هي التّقنية الأنسب لفك الحصار عنه.. انظر مثلا شخصيّة مالك ص 27 وإنجيلا ص 51 وجمال ومجاهد ص 77 وابنا أخ امبارتو ص 129 ..كذلك شخصية فرجينيا ولوكا وقبريال واميلو فرسانو وسلفلدور ص 44-46.. انفجرت أسماؤها دفعة واحدة، في مساحة ضيّقة ولأوّل مرّة، دون تمهيد مسبق ودون اهتمام بأدوارها في المستقبل.. مما أدّى إلى بهاتها، وخلوّها من الرّوح والحرارة، وعجزها عن مقاومة النّسيان..
برقيات متفرّقة:
* توزّعت الرّواية على ثلاثة عشر فصلا، تفاوتت في المساحة وعدد الصّفحات.. والسّؤال، علي أيّ أساس تمّ هذا التّقسيم.. هل استند إلى رؤية فنيّة واضحة، تهدف إلى توظيف معيّن ؟ أم استند إلى ذوق خاص يخلو من الغاية والقصد ؟
عموما تقسيم النّص الرّوائيّ إلى فصول ومقاطع ومشاهد.. يخضع إلى أطر الزّمان والمكان، وتدفع إليه المحاور والأغراض، وتستوجبه الرّواة في حالات تعديدها وتدويلها… وليس بالضّرورة أن تجتمع هذه الدّوافع جميعها في حيّز واحد.. بل يكفي استعمال إحداها أو بعضها على حسب الحاجة، مع صوغها ضمن معمار هندسيّ واضح المعالم، يتشكّل ويتطوّر وفق آليات تفرضها اللّعبة الفنيّة.. كآليّة التّداول والتّراكم والتّناظر والتّكرار…
يبدو أنّ تقسيم الفصول في مدائن منتصف الوهم..لم يستند إلى منهج واضح أو رؤية مسبقة.. بل تعاملت معه الرّواية بشيء من العفوية، وربّما انقيادا مجرّدا لعرف السّرد.. ويمكن أن نستدلّ على هذا بالفصل الثّاني.. إذ نلاحظ أنّ عدّة مناطق جغرافية مختلفة، احتضنها إطار واحد على ما فيه من تباين في طرح الرّسائل والأغراض، دون فصل منهجيّ بينها، إلاّ الانتقال من فقرة إلى غيرها.. كان يمكن عند الصّفحة 35.. الفقرة الثّانية.. أن يتمّ تقسيم الفصل إلى مقطعين بواسطة علامة مميّزة، تفصل بين منطقتين جغرافيتين وما دار فيهما من شخوص.. الأولى في جنوب ايطاليا.. والثّانية بالعاصمة شمال البلاد التونسيّة..
* في مواقع معيّنة من الرّواية.. وفي مساحة محدّدة نسبيّا.. شهد حضورا مكثّفا للشّخوص.. ( يمكن العودة إلى الصّفحات (45-46-47 ) ورغم أنّ أكثرها يظهر لأوّل مرّة، فإنّ الرّاوي تعامل معها كما لو كانت معروفة عند المتلقّي بالضّرورة.. فجأة نسمع أصواتها عن طريق الحوار دون أن نرى ملامحها، كمل لو كانت أشباحا وخيالات ليس لها من علامات الحضور إلاّ الكلام..
إنّ زحمة ظهور الشّخوص دفعة واحدة، في حيّزين زماكنين ضيّقين، هي تقنية سينمائيّة بالأساس.. وهي تعتمد على التّصوير الحسيّ بواسطة عدسات متطوّرة، قد تكون من آخر طراز جادت به التّكنولوجيا.. إنّ عدسة الكاميرا قادرة في ثانية واحدة أو جزء منها، أن تستوعب أكثر من وجه وتقذف به في إدراك المتلقي، كذلك الألوان والملامح والأصوات وغير ذلك.. فهل يتسنّى هذا لعدسة السّرد؟.. حتما طبيعة كلّ منهما مختلفتان، ومن ثمّ فإنّ نتائجهما وآثارهما مختلفتان بالضّرورة.. إذن كيف يمكن للرّواية أن تستفيد من تقنيات السّينما عموما، وتقنية التّصوير خصوصا؟.. كيف يتسنّى لها رسكلة تقنيات ذلك العالم، وتحويلها إلى طبيعة سردية بحتة؟… إنّها فعلا أسئلة مؤرقة فهل من جواب؟..
* كنّا قد ألمحنا إلى أنّ عنصر الحدث تميّز بعنفوان الحركة والتّطوّر.. ومن ثمّ تحوّل إلى التشعّب والتفرّع في نواح عديدة.. وكانت النّتيجة الطبيعيّة لهذا الكمّ الهائل من الأحداث المتشابكة، أن تولد في النّص حبكة على غاية من الإتقان والمنطقيّة.. قطعت مع المصادفات العمياء، والعفويّة غير المحسوبة العواقب.. وارتقت إلى درجة التّصميم، مما يوحي أنّ النص على تعددّ خيوطه لم يفلت عن إرادة صاحبه.. فظلّ مرتبطا بوعيه وتقديره بكامل أجزائه وتفاصيله.. وأستطيع أن أسجل بارتياح أنّ مدائن منتصف الوهم، تفوّقت في هذه النّقطة إلى درجة الامتياز والإدهاش.. أحيانا مجرّد كلمة أو كلمتين لا يلقي لها القارئ باله، حتّى يكتشف في موضع آخر أنّ لها غاية مُهد لها تمهيدا.. أنظر مثلا الصّفحات: 20-84-86-103-145-152…الخ.
* نلاحظ أنّ أسلوب الرّواية في عمومه كان قريبا جدّا من أساليب سينما الحركة.. وهي بالمناسبة قادرة على أن تتحوّل بسهولة إلى عمل سينمائيّ يبشّر بالنّجاح.. – أرجو أن نراها على ذلك يوما ما-.. ولعلّ من أهمّ التقائها مع عالم السّينما هو التّصوير.. ففي كثير من المواضع استطاعت أن تحوّل ذهن القارئ إلى شاشة عملاقة، تطبع عليها سيلا من الصّور بكلمات موجزة، قد لا تتجاوز جملة واحدة.. أحيانا تنتج صورا ذهنيّة مع تعاقبها نشعر كما لو كنّا جزءا من العالم المتخيّل.. أو كأن الأخير حقيقة ماثلة.. أنظر مثلا الصّفحات:12-40-44-59-60-61-62-77-153… الخ.
وأخيرا:
لقد كانت الرّحلة ممتعة في مدائن منتصف الوهم.. يمرّ الوقت في رحابها سلسا دون أن يخلّف في النّفس كلل القراءة أو الملل من أجوائها، للأسباب التي أتت على بعضها هذه الدّراسة.. وإذ أثمن هذا السّمت الذي غدا نادرا في الكتابات السرديّة الأخيرة، فإنّي ألفت الانتباه إلى مزيد العناية بالجوانب الفنيّة والشكليّة.. وإدراجها ضمن اهتمامات الكاتب، بحثا ودرسا وانفتاحا على آفاق جديدة.. سيما وقد سبقت إليها كبريات الرّوايات في العالم..