قراءة نقدية في مجموعة الكاتبة صونيا عامر القصصية… (وقصص أخرى)

متغيرات اللغة والأداة والرؤية والوظيفة مثَّلت درجة من التطور الفني التقني في عالم القصة القصيرة

عن مؤسسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع بيروت – لبنان، صدر هذا العام 2012م للشاعرة والفنانة التشكيلية اللبنانية صونيا عامر الطبعة الأولى من مجموعتها القصصية (… وقصص أخرى ) والمنتظر طرحه في معرض الدوحة الدولي للكتاب في نهاية العام إن شاء الله.
وقبل أن نخوض في دهاليز هذه المجموعة المجنونة كان لزاماً علينا مصافحة العنوان قبل مصافحة المبوَّب، حتى نستطيع القبض على دلالاته الفلسفية المعقدة لإعادة إنتاجه مجدَّدا، هذا العنوان الجديد والذي لم نعتد عليه في المجموعات القصصية المختلفة والتي يكون فيها العنوان لإحدى قصص المجموعة، ويبدو انَّ الكاتبة صونيا بوضعها للنقاط قبل وقصص أخرى لم تعط أهمية لقصة واحدة وتضعها عنواناَ لمجموعتها، فكل قصصها تصلح عنواناً لهذه المجموعة، وفي النهاية يستطيع القارئ أن يضع ما يشاء عنواناً للمجموعة ، فالكاتبة لم تضع عنوانها لكي يكون عمودا تستند إليه…

تتكون المجموعة من ثماني قصص خطتها المؤلفة بـ 111 صفحة من القطع المتوسط بدأتها المؤلفة بإذاعة هنا الفيسبوكية وصباحيات وهكذا دواليك وموقفي لليوم وزمن كشف وبائعة الشنط وطريق العودة وأخيراً النهاية.

تعرض لنا صونيا عامر قضايا إنسانية قديمة ومعاصرة، وتغوص بنا في مكنونات النفس البشرية حتى العمق ، فهي تفلسف الحدث وتتدخل في تفاصيله، ومن الملاحظ في بعض القصص أن الراوي الكاتبة نفسها (  وكما تذكّرت أنّ صديقة لنا منذ عشرين عاما ماتت على يد طبيب عربيّ، طبعا اختلف الوضع فهي أخطأت بالذهاب لطبيب عربيّ يُقال إنّه كان مرخّصا حينها، أيضا لستُ متأكّدة، لم أرَ التراخيص بأمّ عيني وأنا شخص وسواسيٌّ وقهريّ لا يثق بأحد.

وبالأمس وحين كنتُ أتابع البرنامج تعاطفتُ مع أمّ الفقيدة وطفلها الذي لم يرَ النور، أصغيتُ بدقّة للمكالمات الهاتفيّة التي جرَتْ بين المذيع ونقابة الأطبّاء، وفهمتُ بأنّ القانون لا يحمي الميت من غلطة طبيب،،،،، حدث في لبنان.) ص2

وفي قصص ثانية ضمير الغائب هي (تنهض هنا من سريرها مسرعةً وهي شبه نائمة، وكيف لا! فليس لديها عملٌ تقوم به، ولكنّها توقّفت لحظةً واحتارتْ بأمرها..) ص4
أحيانا ً تبدو لنا المجموعة وكأنها مذكرات أو خواطر ذاتية لكننا لو تعمقنا قليلاً فسنجد أن هذه الخواطر أو المذكرات تأخذ منحًى غريباً ولغة فائقة لم نكن نعهده بهكذا نوعية من القصص القصيرة ، ففي قصتها الأولى (إذاعة هنا الفيسبوكية)  تسرد الموقف وتنهيه، ثم تنتقل بنا إلى موقف أو رأي بقضية أخرى مختلفة تماماً عن سابقتها، فبعد انتهائها من سرد قصة سيدة ووفاتها وطفلها بسبب خطأ طبي تعرج بنا إلى التفاؤل ومن ثم التاريخ والجغرافيا ومن ثم النقد السلبي من واقع الحياة اليومية، وحسب عنوان القصة فهي إذاعة والإذاعة مليئة بالأخبار المتناقضة أي لا يوجد علاقة بين موقف وآخر، فالخطأ الطبي لا علاقة له بالتاريخ والجغرافيا، والنقد لا علاقة له بالانتظار وهكذا على بقية المواقف.

إلا أن اللافت للنظر طريقة المؤلفة بفلسفة الموقف أو الحدث، وهو وإن كان رأياً ذاتياً إلا أنه مثير ويدفع بك إلى لذة الكشف ، فتعيد القراءة مرة ومرة حتى تخرج بنتيجة منطقية، ولننظر إلى صونيا في حديثها عن التاريخ والجغرافيا على سبيل المثال لا الحصر.

(ما الفرق بين التاريخ والجغرافيا؟ التاريخ هو الفعل أي ما يحدث، الجغرافيا هي المكان أو المفعول به، ما يغتصب أو ما يحدث عليه الفعل أو الصراع الذي ندوّنه كتاريخ كي لا تضيعَ المعلومة. لو أعدنا النظرَ سوف نجدُ أنّ الجغرافيا هي مسبِّب التاريخ وليس العكس فلولا المكان لما نشب الصراع. إذن، فلو حللْنا مشكلة المكان هل تظنّون أنّ ذلك سيقلّل من كتابة التاريخ سواء كان سلبا أم إيجابا؟، وكيف لنا حلّ مشكلة المكان أي الجغرافيا؟)
هنا تدفعنا الكاتبة لقراءة فلسفة تصل بنا لحد الهستيريا من طرح أسئلة يستحيل أن نجب عليها أو نجد لها جواباً منطقياً !!!

هذه الفلسفة الهستيرية كما أسلفت سابقاً تتكرر في كل مجموعتها، وهي إشارة صريحة على التجديد في فن القصة القصيرة وهذا يحسب لها لا ضدها.
الملامح الفلسفية في هذه المجموعة مثَّلت إبداع كاتبتنا صونيا، فكانت المجموعة مجزأة إلى وحدات منفصلة، وتساؤلات دنيوية تنتظر إجابة لن تأتِ أبداً.
إن هذا التمرد المرير على واقع فقد كل مقومات القيم الإنسانية يتضح بالحديث عن الخوف والتخوفات من المصير المجهول (تخوُّف، عندي تخوّف، عندهم تخوُّف، خوفهم من القادم الغامض، من العنف، من التطرُّف، من التفتيت ومستنقعات الدم، أنا خوفي من التخوُّف من الوقوع بالشرك، شرك تغيير مسار الأحداث بأدوات بشريّة ساذجة لا يتخطّى أفقُها إطار الإطارات المحروقة نفسها، الحياة حركة ولم نشهد يوما حركة سارت تراجُعا ، لمَ التخوُّف إذن!)  ص3

وقد شكلت القضايا والتساؤلات والتنقل المفاجئ بين الأحداث عنصراً أساسياً عند المؤلفة، وبعثت فيها الحركة والنشاط ، كما برعت الكاتبة في تحريك شخوصها ببراعة ومرونة فائقة، وترتفع بنا إلى جودة فنية فائقة، وهي بالإضافة إلى ذلك تستخدم لغة مطواعة قوية حافلة بالتعابير والمواقف المتفلسفة.

في انتقالها إلى (صباحيات) وفيها تعتمد الكاتبة على تقنية الحوار، إلا أنها نسيت نفسها فأسهبت كثيراً، وتداخلت الأحداث فكانت الإطالة مضطربة ومشتتة أحياناً، والتنقل بين قضايا وآراء فرعية كان بالإمكان الاستغناء عنها ، (في ذاك اليوم ، أظنّه كان يوم الثلاثاء، هنا تتذكّر ” قصّتي مع الممرّ/ الكوريدور طويلة جدّا، عمرها ستّ سنوات، رغــم الفارق البسيط بطول الممرّ/ الكوريدور، حيث أنّ ممرّ/ كوريدور الشقّة الجديدة أطول من الكوريدور القديم…) ص7.

ومهما يكن من أمر فالإطالة لم تؤثر على شفافية اللغة وحسن انتقاء الألفاظ، فللكاتبة في حوارها مع النص بشكل عام لها وجهة نظر فلسفية مرتبطة برؤيا شاملة في الكون والحياة، فلديها موقف تحدده طريقة تصورها لهذا الكون وارتباطاته وطريقة تفاعله مع الأحداث…

في هكذا دواليك تتحدث المؤلفة عن عائلة تواجه تحديات التطور التكنولوجي المتسارع ، فتصف لنا بدقة حياة الأم والأب والأبناء، والقضايا التي تؤرقهما لكنها لم تكن غارقة بالتفاصيل كسابقتها، وكانت أقل فلسفة وأكثر منطقية، وما يميز قصتها هنا أنها حيادية نوعاً ما وتدافع عن قضاياها بكل جرأة وبكل صدق.

أما انتقالها إلى (موقفي اليومي ) فقد قسمته إلى 12 موقف ، كل موقف يختلف عن الآخر ، وهي مواقف حياتية عادية أحياناً ، إلا أن المؤلفة بإسهابها ضخمت من هذه المواقف لتأخذ منحى الوعظ والإرشاد والنصح، (يحدث أحيانا و تشعر باللامبالاة عندها اذهبْ و ابحثْ عن عزيمتك، فلو صادفتَ أشخاصا يحبّونك كُنْ واثقا بأنّهم سيردّونها لك بأفضل منها وبطيب خاطر، أمّا إذا تعثّرتَ بمَن كرهوك على طول الخطّ، فعُدْ لِذاتك ولملِمْ بقايا عزيمة شوّهَتْها شظايا غلٍّ قديم. للصحّة النفسيّة أنصح بالعمل…) وكان على المؤلفة التخفيف من حدة لغتها فالقصص موجهة في النهاية للقارئ العادي وعامة الناس وليس لعلماء النفس والفلاسفة ولا حتى النقاد وهذا ينطبق على بقية قصص المجموعة المتبقية، فاستمرارية استعمال اللغة الشاعرية على هذا النحو أعطاها صفة الغرائبية والألغاز، مما يصعب من مهمة استيعاب القارئ.

وفي نهاية حديثنا عن مجموعة صونيا عامر (… وقصص أخرى) لا شك أن القارئ يلمس متغيرات على مستوى اللغة والوظيفة والرؤية والأداة، وهو تغير يمثل درجة من التطور الفني التقني في عالم القصة القصيرة، مجموعة صونيا تستحق القراءة، وإعادة القراءة مرات ومرات، وتستحق أن نستكشف كنوزها ومغزاها…

فنصوص الكاتبة بمختلف طروحاتها واتجاهاتها تكثيف للواقع لا تحليل له قابل للتفجير والانشطار والتفسير المتجدد ، له القدرة على البث المتواصل للمعاني والمشاعر بظلالها وإيحاءاتها.

–    سؤالٌ يطرح نفسه ، السرقة حلال ولا حرام؟
–    السرقة حرام
–    و العمولة؟
–    ليست حراماً
–    فلنأخذ مثالا  ثانياً
–    الخيانة حلال أم حرام
–    الخيانة حرام
–    لماذا
–    لأنّ الزواج حلال
–    متى يخون الشخص
–    عندما يتوقّف عن حبّ الشريك الشرعيّ/ الحلال
–    إذن
–    يذهب للحرام
–    أي يحبّ شريكاً آخر غير شرعيّ/ غير حلال
–    أجل
–    فلنفرضْ أنّ الشخص لم يهمل واجباته الشرعيّة، فهل ذلك حلالٌ أم حرام؟
–    كيف؟
–    أجل كأن يخونَ من يحبّ مع من لم يعُد يحبّ، فهذه ليست بالخيانة؟
–    لستُ أدري
–    فلنفترضْ أنّ الآخر الشرعيّ يعلم بتوقُّف الآخر عن الحبّ فهل حلالٌ أن يستمرّا معا؟
–    يتوقّف على مبدأ الشرعيّة، فما معنى شرعيّ؟
–    أي ما هو مُوثَّق
–    و ما المبدأ الذي قام عليه التوثيق؟
–    الحب ، ص41

إنه عملية التجريد الذي يحيل الجزئي إلى الكلي والخاص إلى عام ، وهو ذروة التفاعل بين الذات والموضوع ، بين المؤلف والعالم.
وحين تجتمع  الرؤيا أو التجربة بشكل متكامل لدى كاتبتنا فإن كتابتها تكون أكثر التهاباً ، ولا تترك وراءها سوى جمرات محرقة تبعث الدفء على مر الأيام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *